عنب بلدي – كريستينا الشماس يشهد الواقع الثقافي والفني في سوريا تحولات متسارعة في السنوات الأخيرة، إذ برزت ملامح جديدة تعبر عن تنوع التعبير الإبداعي وتغير أولويات الجمهور، الذي بات يبحث عن أشكال فنية تتيح التفاعل والتفكير النقدي في آن واحد. ومن بين هذه الملامح، يبرز فن "ستاند أب كوميدي" كأحد الأنماط الجديدة التي بدأت تجد لنفسها مكانًا على الساحة الفنية السورية، بعد أن كان مغيبًا لسنوات عن المنصات والمسارح.
انطلقت بدايات العروض الكوميدية في المقاهي أو الفعاليات الثقافية المستقلة، لتبدأ تدريجيًا باجتذاب جمهور متعطش للضحك ومتشوق للتعرف إلى هذا الفن.
ولادة متأخرة
لم يكن فن "ستاند أب كوميدي" مألوفًا في سوريا حتى لفترة قريبة، فـ"الكوميديا" كانت حكرًا على الأعمال التلفزيونية التقليدية، التي غالبًا ما توزعت بين التهريج أو النقد الاجتماعي الحذر، تجنبًا للرقابة في عهد النظام السابق.
قال الناقد الفني جوان الملا، لعنب بلدي، إن العروض الكوميدية في سوريا تعتبر تجربة جديدة وناشئة ولا يزال العنصر النسائي يتغيب عنها، ورغم ذلك استطاعت هذه العروض أن تخلق تفاعلًا مع الجمهور. واعتبر الملا أنه لا يمكن مقارنة تجربة "ستاند أب كوميدي" في سوريا مع التجارب الأخرى في الدول العربية كمصر ولبنان، والتي تعتبر متقدمة بفن العروض الكوميدية. كما أن "الكوميديان" العرب استطاعوا أن يثبتوا وجودهم في عروضهم المضحكة، ليتحولوا إلى مشاهير على مستوى الوطن العربي، وهذا لا يزال غير متحقق في التجربة السورية نظرًا إلى حداثتها وقلة عدد روادها حتى الآن، بحسب الملا.
"الكوميديان" ملكي ماردينلي، يقيم في دمشق، تحدث لعنب بلدي عن تجربته في عروض "ستاند أب كوميدي"، التي بدأت كتجربة فردية عام 2021، حتى بداية عمله في 2022 مع فريق "ستيريا"، لتقديم العروض كوميدية.
"الكوميديا هي المساحة التي استطعت بها أن أعبر عن نفسي"، قال ملكي، مضيفًا أنه على الرغم من قلة عدد "الكوميديان" في سوريا الذي لا يتجاوز 30 شخصًا، فإنهم استطاعوا أن يثبتوا وجودهم عبر طموحهم المشترك بينهم، على حد تعبيره.
ويرى ماردينلي أنه لا يمكن مقارنة التجربة في سوريا مع بقية الدول العربية، لأن كل مجتمع لديه صبغته الثقافية المستقلة وتجربته الخاصة في هذا الفن.
تفاعل إيجابي
اعتاد المجتمع السوري لعقود على كوميديا الدراما التلفزيونية، إلا أنه بات اليوم أكثر انفتاحًا على أشكال جديدة من الترفيه. ولم يقتصر حضور عروض "ستاند أب كوميدي" على فئة الشباب فقط، بل شمل أعمارًا مختلفة، وبحسب ما رصدته عنب بلدي من شهادات الحضور، فالبعض يأتي بدافع الفضول، وآخرون يجدون في هذه العروض "تنفيسًا" عن ضغوط الحياة اليومية.
جودي الظواهري (29 عامًا) مقيمة في دمشق، قالت لعنب بلدي، إنها حضرت أكثر من عرض كوميدي، وكانت المواضيع التي طرحت فيها قريبة من المجتمع السوري وتلمس معاناته اليومية بطريقة مضحكة، على حد تعبيرها. "ضحكت من قلبي لأول مرة منذ سنوات، (الكوميديان) كان يتحدث عن تفاصيل نعيشها يوميًا كالتعليقات الغريبة في طوابير الخبز، وحتى نكات عن شعارات النظام السابق"، قالت جودي.
تلامس الواقع
تنوعت المواضيع التي يتناولها "الكوميديان "السوريون في عروضهم بين انتقاد واقع الخدمات، والمفارقات المجتمعية، والازدواجية في السلوك اليومي، إضافة إلى إسقاطات على الواقع السياسي، غالبًا ما يتم تمريرها بأسلوب رمزي أو ضمني يتلافى الاصطدام المباشر مع الخطوط الحمراء. كما لم تغب عن هذه العروض الإشارات إلى تجارب اللجوء والغربة، وتأثير ما حدث على مدار 14 عامًا على تفاصيل الحياة اليومية.
نادر شاهين، موظف حكومي في دمشق، حضر عرضًا في أحد المسارح وقال لعنب بلدي، إنه تفاجأ من جرأة الشاب الذي وقف على خشبة المسرح وتحدث عن الرواتب وغلاء الأسعار والمدير الفاسد. "شعرت كأنه يحكي بلساني، لم أكن أتوقع أنني سأضحك لهذه الدرجة، فكل المواضيع كانت تعكس معاناتنا"، بحسب نادر.
تحدث "الكوميديان" ملكي ماردينلي، أن عروضهم تناقش كل المواضيع القريبة من الحياة المجتمعية اليومية، وتتطرق للمعاناة التي يعيشها السوريون بطريقة مضحكة. واعتبر ماردينلي أن "الكوميديا" تساعد على تخفيف الألم ورؤية الحياة من زاوية مختلفة، فالضحك هو "وسيلتنا لمواصلة الحياة رغم الصعوبات".
جرأة محدودة
أوضح الناقد الفني جوان الملا، أن أكثر المواضيع التي تثير ضحك الجمهور هي السلطة والدين والسياسة. وأضاف الملا أن العروض الكوميدية في سوريا تتناول مواضيع المجتمع والسياسة، لكن المواضيع الدينية تظل حساسة وغير مرحب بها بشكل واضح، بعكس لبنان إذ يتم تناولها بصورة طبيعية. لذا، الجرأة في تناول "التابوهات" موجودة في بعض العروض لكنها غير منتشرة ومحدودة.
وتحدث "الكوميديان" ملكي ماردينلي عن حرية أكبر في تناول بعض المواضيع بعد سقوط النظام، لكن لا تزال هناك خطوط حمراء موجودة تختلف من منطقة لأخرى ومن جمهور لآخر، لذا يجب أن يكون هناك وعي للحساسيات الموجودة.
أما "الكوميديان" رامي العابد، الذي يقدم عروضًا شهرية في أحد مقاهي حمص، فقال لعنب بلدي، "نمزح حول كل شيء، حتى الأجهزة الأمنية كنا نتحدث عنها سابقًا، ويتفاعل معنا الجمهور، لكن في كل عرض، هناك لحظة صمت تمرّ حين نقترب من الخطوط الحمراء فنتراجع قليلًا". وأضاف أنه لا يعرف حدود الحرية حتى الآن، لكنه يكتشفها عرضًا بعد آخر.
ومن وجهة نظر "الكوميديان" أحمد سلامة، الذي يعيش في اللاذقية ويقدم عروضًا في بعض الفعاليات المستقلة، فإن الكوميديا هنا ممكنة لكنها محدودة. لذا لا يمكنه الاقتراب من قصص تتعلق بأمور الدين بما فيها من حساسية عالية لدى الجمهور، فيلتزم بالمواضيع اليومية والمشكلات الاقتصادية لإضحاك الجمهور.
فعل مقاومة
يعتبر "الكوميديان" رامي سلامة، أن "ستاند أب كوميدي" في سوريا لم يعد مجرد ترفيه، بل بات فعلًا ثقافيًا مقاومًا للخوف والرقابة ومواجهة الواقع. وهو فن مستقل بحد ذاته يحمل في جوهره رسالة، "ما دام السوريون قادرين على الضحك، فهم ما زالوا أحياء، وما زال لديهم أمل بتغيير واقعهم".
أوضح الناقد الفني، الملا، أن دعم السلطة مهم في الفترة المقبلة، وإذا كان هناك دعم رسمي لنقد السلطة فهو مؤشر لانفتاح جديد على نقد الواقع السياسي والاجتماعي.
وتحدث ملكي ماردينلي عن الصعوبات التي تواجههم في عملهم، من بينها نقص الدعم والتمويل، وقلة الاحتكاك مع المشهد الكوميدي العربي والعالمي، وغياب أماكن ثابتة لإقامة العروض بانتظام، لذا يتطلع أن يكون هناك دعم أكثر في المستقبل لهذا الفن.
"رسالتي في كل عرض هي أن يستمتع الناس بحياتهم، لأن الحياة أقصر من أن نضيعها في القلق والمشكلات والخوف"، قال ماردينلي.