الثلاثاء, 24 يونيو 2025 02:44 AM

سوريا: رؤية تتجاوز الانقسام.. قراءة في التعقيدات والتحديات

في أوقات التحولات الكبرى، تميل المجتمعات إلى التبسيط والاختزال، مما يضيّق زوايا الرؤية ويحصر التاريخ في أطر محدودة. لكنّ الفهم الحقيقي يتطلب رؤية مزدوجة: عين ترى المأساة، وأخرى تدرك التعقيد؛ عين تنحني للألم، وأخرى تسعى لفهم المعنى. يرى الدكتور سلمان ريا أن سوريا ليست مجرد قصة ذات جانب واحد، بل هي وطن يتجاوز الاختزال والتصنيف، وطن يتنفس في وجوه أبنائه رغم اختلافاتهم.

سوريا ليست مجرد إضافة في سجل الانتصارات أو الهزائم، وليست ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. إنها وطن بجذور عميقة وأفق واسع، لا يمكن حصره في طرف أو معسكر. ورغم محاولات البعض لاختزالها في سرديات تاريخية معينة، تظل الجغرافيا هي العامل الأقوى في توحيدها. فالتاريخ، إذا استُخدم كسلاح، يفرق ويمزق، بينما الجغرافيا تجمع وتحتضن.

عندما نعيد إحياء معارك الماضي، فإننا لا نصنع وعيًا، بل نثير رواسب الماضي السلبية التي تسمم الحاضر. إن استدعاء الماضي لإشعال الحاضر يحرف مسار الوطن ويغرقه في الانقسامات. فإحياء الانقسامات القديمة لا يبني وطنًا، بل يوقظ الفتن الطائفية.

من منظور واحد، قُدّمت الأحداث في سوريا على أنها ثورة شعبية ضد نظام قمعي. ومن منظور آخر، صُوّرت كحرب دولية لتفكيك بلد صامد. وبين هذين المنظورين، ضاعت الحقيقة. فالحقيقة لا تكمن في أي من الطرفين، بل في المساحات الرمادية التي يتجنبها الجميع، حيث يعيش الناس الحقيقيون الذين دفعوا ثمن هذه الروايات المتضاربة.

الثورة كانت حقيقية، لكنها لم تظل نقية. والنظام كان قاسيًا، لكنه لم يكن الطرف الوحيد المسؤول. الفصائل التي رفعت شعارات الحرية ارتكبت فظائع، والنظام الذي ادعى حماية الوطن دمر مدنه على رؤوس أبنائه. لا يوجد أبرياء مطلقون أو مجرمون دائمون، فالكل بشر يتقلبون بين المصالح والمآسي.

الرؤية المزدوجة تعني فهم أن الضحية قد تتحول إلى جلاد إذا امتلكت السلاح، وأن الجلاد قد يتقمص دور الضحية إذا فقد قوته. وتعني أيضًا عدم اختزال المأساة في صراع بين "النظام" و"المعارضة"، بل الغوص في النسيج الاجتماعي المتصدع، والعائلات المتفرقة، والأحياء التي تحولت إلى جبهات قتال، والإخوة الذين أصبحوا أعداء.

لا تكفي الروايات الكبرى، بل يجب الاستماع إلى الروايات الصغيرة: حكايات الأمهات، وصمت المدن المدمرة، وأنين المعتقلين، ودموع المهجرين. يجب أن ندرك أن الحرب لم تكن فقط على الجغرافيا، بل كانت حربًا على الذاكرة والهوية والروح. فالوطن ليس مجرد خريطة أو نظام، بل هو الإنسان الذي فقد أحباءه، وهُجّر من بيته، واختنق بدموعه بحثًا عن بصيص أمل.

من يرى بعين واحدة يردد ما يُملى عليه، بينما من يرى بعينين يصمت طويلًا قبل أن يتكلم. من يرى بعين واحدة ينحاز إلى طرف، بينما من يرى بعينين يقف مع الإنسان. أن ترى سوريا بعينين يعني أن تنحاز إلى سوريا نفسها، لا إلى من يتحدث باسمها أو يرفع صورها وهو يهدمها. سوريا تحتاج إلى من ينظر إليها بضمير حي وعقل وقلب، إلى من يرى الجرح في الجانبين، ويدرك أن النصر الذي يُبنى على جثث الأبرياء هو هزيمة مؤجلة. تحتاج إلى من يفهم أن الانتصار الحقيقي ليس رفع علم على الخراب، بل إعادة الحياة إلى شعبها، وعودة أبنائها إلى حضنها، وبناء جسور فوق ما تهدم من مدن وقلوب.

سوريا لا تزال تنتظر من يراها كاملة، من يعترف بأن التاريخ أكبر من أن يُروى من زاوية واحدة، ومن يعيد بناءها بعينين مفتوحتين على المستقبل، ويعيد قراءة تاريخها بعقل متفتح يتجنب إحياء الماضي المؤلم، ويدرك أن ما توحده الجغرافيا يجب ألا تمزقه الخلافات القديمة. سوريا لا تحتمل أن نبقى أسرى ماضٍ لا يُجدي، لأن مستقبلها لا يُبنى إلا بأيدٍ متصافحة، وقلب متسامح، وعينين تتطلعان إلى ما بعد الدمار.

مشاركة المقال: