السبت, 8 نوفمبر 2025 08:44 PM

غزة في مواجهة الفوضى المُدارة: كيف حارب الغزيون التفكيك الاجتماعي إلى جانب السلاح؟

غزة في مواجهة الفوضى المُدارة: كيف حارب الغزيون التفكيك الاجتماعي إلى جانب السلاح؟

أصبحت "الفوضى المُدارة" سمة بارزة في صراعات العصر الحديث، حيث تتداخل الحروب الاقتصادية والنفسية والاجتماعية. وتجسد تجربة غزة جوهر ما يُعرف بـ "الحرب الظلّية"، التي تهدف إلى تفكيك المجتمعات من الداخل عبر استغلال الفوضى. منذ بداية العدوان الإسرائيلي، استهدفت حرب خفية النسيج الاجتماعي للقطاع، بهدف تحويل الاضطراب الداخلي إلى عامل مساعد في إلحاق الهزيمة بالمقاومة.

عمل العدو على تقويض الثقة بين الناس وتفريغ المجتمع من قدرته على التنظيم الذاتي، من خلال إضعاف المؤسسات المحلية، وتأجيج الخصومات القبلية، وتجنيد العملاء، وتطبيق ما يُسمى "هندسة الديناميات الاجتماعية". بالتزامن مع القصف، تحركت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لتكوين شبكات محلية لمراقبة المقاومة وترويض المجتمع الغزي.

استغلت إسرائيل الخلافات التاريخية بين بعض العائلات وحركة "حماس" لتأجيج الصراعات الداخلية. ومع تراجع سلطة الشرطة في مناطق مثل رفح، تحولت الفوضى إلى مشهد يومي. كما استخدم العدو الحصار الاقتصادي أداةً للحرب، مما أدى إلى احتكار التجار واستغلال الصرافين للأزمة النقدية، وتسلل الفساد إلى الهيئات الإغاثية. حتى في مخيمات النزوح، اندلعت خلافات بين العشائر تطورت إلى اشتباكات.

في ظل هذا الانفلات، ظهرت منظمات "خيرية" واجهات لجماعات تنسق مع الاحتلال، الذي قام بتغذيتها عبر تجنيد ضعاف النفوس، وتطبيق ما يُعرف بالتشويه البنيوي للاقتصاد السياسي. وأعلن وزير الأمن السابق، يؤاف غالانت، عن خطته لخلق "فقاعات إنسانية" وتسليح بعض العشائر. وبحلول عام 2024، استهدفت الضربات كل ما يشكل "نظام الحكم" في غزة، بما في ذلك المبادرات الخدمية ومخازن الإغاثة والمكاتب البلدية ونقاط الإنترنت.

برز اسم العميل ياسر أبو شباب، مع دخول قوات الاحتلال إلى رفح، كواجهة لـ "الفوضى المنظمة". تحول أبو شباب، الذي خرج من السجن، إلى قائد لـ "عصابة" تفرض الإتاوات على المساعدات تحت حماية الدبابات الإسرائيلية. وكشفت مصادر في غزة عن تواطؤ بين بعض السائقين والعصابات. كما تشكلت مجموعات أخرى لنهب المساعدات، فيما ركزت عصابات الاحتلال على نهب السلع الأغلى ثمناً.

ورغم أن "الحروب غير النظامية" تضعف قدرة المجتمع على التعافي، إلا أنه مع دخول الهدنة حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني 2025، أعادت "حماس" نشر عناصرها وأطلقت حملة ضد المتعاونين مع الاحتلال. ومع نهاية الشهر، استعادت الحكومة السيطرة على مناطق كانت تحكمها العصابات. لكن العدوان استؤنف في آذار، وعادت الفوضى بأقسى صورها في ظل حصار خانق فُرِض على معبر رفح. وتصاعدت هذه الظاهرة مع ما سُمّي "مؤسسة غزة الإنسانية"، التي تحولت إلى "مصائد موت" للغزيين.

في ظل هذه الظروف، شرعت بعض العائلات في تكديس السلاح المسروق. وبحسب مصادر في المقاومة، فإن عائلات في غزة، من مثل حنيدق (من عشيرة بربخ)، القطقاطوة، دغمش، حلس؛ وفي دير البلح، من مثل أبو مغصيب، وأبو سمرة "استخدمت السلاح في الاعتداء وفرض الإتاوات". كذلك، نجح الاحتلال في إنشاء عصابة حسام الأسطل شرق خانيونس، وبدأ في استنساخ تجارب مماثلة شمالاً ووسطاً. والأسطل، أعلن في أيلول 2025، تأسيس ميليشيا باسم "القوة الضاربة ضدّ الإرهاب" هدفها "تحرير غزة من حكم حماس".

وإلى جانب أبو شباب والأسطل، نشأت عصابات أخرى؛ ففي حي الصبرة في مدينة غزة، أعادت عائلة دغمش، تسليح مجموعتها بقيادة معتز دغمش. وبلغ التوتر ذروته في تشرين الأول 2025، حين اندلعت اشتباكات عنيفة بين "وحدة السهم" التابعة لحماس ومجموعة معتز دغمش. أمّا في شرق غزة، فكان رامي حلس، يقود عصابة أخرى بتنسيق مباشر مع ضابط المخابرات الإسرائيلي المعروف بـ "أبو رامي". وشملت مهامه خطف مقاومين وتسليمهم للاحتلال. وانسحب ذلك على بيت حانون وبيت لاهيا، حيث ظهر اسم أشرف المنسي.

وفي الشجاعية، نجحت المقاومة في تفكيك عصابة يقودها أحمد جندية. أمّا في خانيونس، فخاضت الأجهزة الأمنية عملية ضدّ "عصابة المجايدة". وبينما كانت العائلات تُصدر بيانات براءة من أفرادها من العملاء، قالت مصادر في المقاومة، إنّ بعض المخاتير تورّطوا في "التغطية على أبناء عشائرهم".

ورغم سريان وقف إطلاق النار الشهر الماضي، وإعادة المقاومة انتشارها، وبدئها حملة واسعة لتفكيك العصابات، لا يزال المجتمع الغزّي يظهر قدرته على بناء أشكالٍ جديدة من التنظيم الذاتي والتكافل الأهلي، وهو ما ينبئ بأنّ مشروع الاحتلال القائم على تحويل الجوع إلى خيانة، والفوضى إلى سياسة، ما فتئ عصيّاً على بلوغ خواتيمه.

مشاركة المقال: