الإثنين, 11 أغسطس 2025 05:56 PM

غياب الشفافية يهدد مشاريع التنمية في سوريا: صفقات بمليارات الدولارات تثير القلق

غياب الشفافية يهدد مشاريع التنمية في سوريا: صفقات بمليارات الدولارات تثير القلق

في أي دولة تسعى إلى النهوض الاقتصادي والاجتماعي، تعتبر الشفافية ركيزة أساسية لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة. فهي ليست مجرد قيمة أخلاقية، بل أداة لتحسين الحوكمة وتعزيز ثقة المواطنين وجذب الاستثمارات وضمان إدارة المال العام بكفاءة.

بدون الشفافية، تصبح مشاريع التنمية مجرد شعارات، وتتعرض المؤسسات للفساد والمحسوبية. التنمية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتزام الحكومات بالشفافية، خاصة في إدارة الموارد واتخاذ القرارات المؤثرة في حياة الناس.

تجارب عالمية تؤكد أن الشفافية تحفز الاستثمار، حيث يبحث المستثمرون عن قواعد واضحة وإجراءات تنافسية وعدالة في المعاملة. كما تعزز الشفافية قدرة المجتمع المدني والإعلام على مراقبة الأداء الحكومي.

هذا المدخل ضروري في ضوء ما يحدث في سوريا، من انعدام للشفافية وتجاهل للآليات القانونية في التعاقدات والعطاءات والمناقصات، والتي جاء بعضها في القانون رقم “51” لعام 2004 وكذلك في المرسوم التشريعي رقم “450” لعام 2004، وهي قوانين سارية المفعول وملزمة للجهات العامة.

نشهد اليوم موجة كبيرة من التعاقدات الضخمة بمليارات الدولارات في مجالات حيوية مثل الطاقة والبنية التحتية والنقل والاتصالات، ولكنها تتم بعيدًا عن أعين الرأي العام ورقابته، ودون الإعلان المسبق عن مناقصات أو طلبات استدراج عروض.

هذا السلوك يثير القلق بشأن تكريس نمط جديد للفساد، وانتهاك لمبدأ تكافؤ الفرص. العقود تبرم مع شركات بعينها بناءً على ولاءات سياسية أو ترتيبات مصلحية، وليس وفقًا للمنافسة العادلة أو الكفاءة الاقتصادية.

وفقًا لذلك، نرى أن شركة تقوم على موظف واحد ورأسمالها لا يعادل أكثر من قيمة سيارة مستعملة، يتم التعاقد معها على بناء أبراج بقيمة ملياري دولار، أو شركة كانت جزءًا من دعم آلة الحرب على السوريين يتم التعاقد معها بمبلغ سبعة مليارات دولار لتوفير الطاقة الكهربائية، دون أي إعلانات رسمية تعلن عن استدراج عروض بهذا الشأن، ما يعني أن الشفافية غائبة تمامًا وعلى مستويين، أولهما غياب أي إعلان رسمي أو علني عن المشاريع أن تباغتك السلطة بإبرام عقودها، وثانيهما يتعلق بحجب تفاصيل تلك العقود التي يتم إبرامها وشروطها، وتفاصيلها، ومدة استثمارها عن الجمهور الذي يملك كامل الحق في المعرفة والرقابة والمساءلة.

إن استنساخ التجربة البعثية- الأسدية والسير على هذا النهج يلحق ضررًا بالغًا بالجهود التنموية، لأنه يفقد الثقة في قدرة السلطة الجديدة على إدارة البلاد بمنطق دولة القانون والمؤسسات، ويكرّس نمط “الدولة العميقة” حيث يدار الاقتصاد بالتحاصص في الغرف المغلقة، فضلًا عن أنه يضعف من كفاءة المشاريع الممولة، إذ قد تنفذ من قبل جهات لا تمتلك المؤهلات الفنية أو الخبرة الكافية، لكنها تحظى بالدعم السياسي، ما يعزز مناخ الريبة والاحتكار، وبالتأكيد يحول عملية “إعادة الإعمار” إلى سوق مغلقة تثري فيها ومن خلالها فئة محدودة على حساب عموم الناس، بدلًا من أن تكون قاطرة للنهوض الشامل.

لم يعد مقبولًا أن تدار شؤون البلاد بمعزل عن الشعب الذي عانى ويلات الحرب وسدد فاتورتها، وإذا كانت السلطة الجديدة تريد فعلًا أن تنأى بنفسها عن ممارسات النظام السابق، فعليها أن تبدأ بإصلاح جذري في ملف التعاقدات العامة عبر الالتزام بالقوانين المعمول بها بهذا الشأن أو إصدار قانون واضح للعقود العامة، يُلزم السلطة بالشفافية والإعلان العلني والمنافسة النزيهة، وكذلك بإشراك الهيئات القضائية والإدارية في مراجعة التعاقدات الكبرى قبل إبرامها، وبإنشاء هيئة مستقلة للرقابة المالية تتابع مسار التعاقدات والتلزيمات وتُصدر تقارير دورية وعلنية ومتاحة للاطلاع، وبتمكين الصحافة والإعلام والمجتمع المدني من ممارسة دورهما في الرقابة والمساءلة المجتمعية.

الشفافية هي دعامة التنمية، ولن تنجح عملية بناء سوريا الجديدة دون ترسيخ ثقافة الشفافية والمساءلة، لا سيما فيما يتعلق بإدارة المال العام. التنمية ليست عملية تقنية فقط، بل هي خيار سياسي وأخلاقي، فإما أن تنطلق على أسس من العدالة والنزاهة وتكافؤ الفرص، أو يعاد إنتاج الاستبداد والفساد بوجه آخر وبأدوات جديدة، ومع الأسف هذا تمامًا ما يحصل حتى الآن.

بقلم: غزوان قرنفل

مشاركة المقال: