شفيق طبارة - فيلم «معركة تلو الأخرى» للمخرج بول توماس أندرسون، هو ملحمة سينمائية تصور أمريكا ممزقة بسبب العنف والعنصرية والأزمات الاقتصادية وتأثيرات حقبة ترامب. يمزج الفيلم بين الكوميديا السوداء والدراما والحركة، ويكشف عن أزمة القيم والانقسام الأيديولوجي الذي يعصف بالمجتمع الأمريكي. من خلال قصة أب ثوري وابنته، يرسم أندرسون صورة قاتمة لمجتمع يواجه تحدياته.
بدون مقدمات أو أعذار، يقدم الفيلم رحلة مباشرة في أعماق الوعي المعاصر، بفضل سينما متجددة لا تترك مجالاً للجدل. إنه ليس مجرد فيلم، بل صرخة تحذير من التآكل الذي يهدد المجتمع والحياة بشكل عام. كوميديا قاتمة تميل إلى المأساة، وعرض دمى كبير يكشف حقائق قاتمة، حيث يبدو العنف هو الحل الوحيد في مجتمع يواجه أزمة الهجرة غير الشرعية كعرض جانبي لأزمات اقتصادية وأخلاقية وبيئية وترامبية أعمق.
يعود بول توماس أندرسون بفيلم جديد مفعم بالحيوية، يذكرنا بأعماله السابقة مثل «ماغنوليا» (1999)، «خيط وهمي» (2017)، «المعلّم» (2012)، «ستسيل الدماء» (2007)، و«ليكوريس بيتزا» (2021)، و«حبّ مترنّح»، أو حتى «بوغي نايتس» (1997)، وأخيراً فيلمه الجديد «معركة تلو الأخرى» المعروض حالياً في الصالات اللبنانية.
ربما لم يقدم بول توماس أندرسون فيلماً بهذه الأجندة السياسية من قبل. مشروع واسع النطاق ينتقد الأيديولوجيات المختلفة، سواء كانت عسكرية أو يمينية أو يسارية. يقدم الفيلم صورة قاتمة لبلد يسوده العنف والعنصرية والعصابات شبه العسكرية والمحافل السرية التي تدافع عن تفوق البيض، وثوار بعيدون عن المثالية. بينما يتعاطف أندرسون مع الثوار أكثر من العنصريين البيض، يصر على إبراز تناقضاتهم الصارخة. يروي الفيلم قصة الحرب الأهلية الباردة والانقسام الأيديولوجي في أمريكا المعاصرة، ويكشف عن خطورة أزمة القيم التي يعانيها المجتمع اليوم.
أراد أندرسون تحويل رواية توماس بينشون «فاينلاند» (1990) إلى فيلم منذ نشرها. تدور أحداث الكتاب في أمريكا عام 1984، في عهد ريغان، مع التركيز على الستينيات والسبعينيات، والهيبيين والثقافة المضادة وحركات الاحتجاج ضد حرب فيتنام. يتناول الكتاب حملة الحكومة على المخدرات والشباب المتمرد، وقصة هيبي سابق وامرأة راديكالية وابنتهما.
تجنب أندرسون الكتاب في البداية، لكنه استلهم منه في النهاية، وقام بتحديث القصة بدلاً من تكييفها بشكل مباشر.
من حرب ريغان على المخدرات إلى الحملة الصليبية على المهاجرين، تتغير الأوقات والأجندات المحافظة، لكن الصورة المحبطة لمجتمع أمريكي تهيمن عليه الرقابة والجنون والعنصرية لا تزال قائمة.
يرسم أندرسون ملامح أمريكا المستقطبة بشدة، المنقسمة والممزقة بفعل سياساتها الداخلية، مع إضافة لمسة من الفكاهة.
لم يعد فريق الأفلام الراديكالي النضالي «24 إطاراً في الثانية» موجوداً في فيلم أندرسون. بدلاً منه، هناك «فرنش 75»، وهي جماعة مكرسة للعنف الثوري ضد الإمبريالية والفاشية الأمريكيتين، تقوم بتفجير القنابل وهدم الأبراج ومداهمة المصارف والسجون لتحرير المهاجرين.
يقدم الفيلم شخصيتين رئيسيتين: بات «غيتو» كالهون (ليوناردو دي كابريو) وبيرفيدا بيفرلي هيلز (تيانا تايلور)، حبيبان وعضوان في هذه المجموعة اليسارية الثورية.
أثناء إنقاذ المهاجرين من مركز احتجاز في كاليفورنيا، تهين بيرفيدا الكولونيل ستيفن لوكجاو (شون بنّ)، ويصبح مهووساً بها. يرزق بات وبيرفيدا بابنة، لكن المجموعة تتعرض لهجوم يجبرها على التفرق، ويهرب بات مع الطفلة.
بعد 16 عاماً، نتعرف إلى بوب فيرغيسون (دي كابريو)، المدمن على الكحول والمخدرات، وابنته ويلا (تشياس إنفينيتي)، المراهقة التي تعيش مع والدها. يختبئ الاثنان من الجميع، ويطاردهم الشياطين، ووكالة الاستخبارات المركزية، ومركز التحقيقات الفيدرالي، ودولة أمريكا العميقة ممثلة بمجموعة من السياسيين العنصريين البيض «نادي مغامرو عيد الميلاد»، وستيفن لوكجاو.
يجيد أندرسون التقاط روح العصر في أفلامه، ويكمل مراجعته لتاريخ أمريكا، بقبضة ملحمية عن بلد في حالة حرب مع نفسه. وفي تلك الهاوية، تبقى العلاقة العاطفية بين الأب وابنته مساحة محتملة للمصالحة. ومع ذلك، يدرك أندرسون أن العالم قد نسي كلمة مروره، ويدعونا لننفجر معه.
ينطلق فيلم «معركة تلو الأخرى» في اتجاهات متعددة، ويتحدى التصنيفات، ويفكك أندرسون قصته ويعيد تجميعها بأدواته الشخصية.
ينتقل الفيلم بين الأنواع السينمائية بشكل طبيعي، مع مشاهد حركة ودراما وكوميديا، وحتى مشاهد الغرب الأمريكي. الموسيقى التصويرية لجوني غيرنوود ترافق كل موقف بنبرة دقيقة، وتتوافق مع السرد. صُوّر الفيلم باستخدام كاميرات VistaVision، لمنح المشاهد تجربة حسية غامرة.
للفيلم منظوره الأيديولوجي الخاص: فهو في صف الثوار، حتى عندما يصوّر بعضهم على أنهم أغبياء أو خونة. يكمن جمال الفيلم في نبرته المختلطة، حيث تختلط الدراما بفكاهة جريئة.
يتمتع دي كابريو بطاقة جوهرية، ويخطف شون بن الأضواء بشخصيته البغيضة، وتملأ تشايس إنفينيتي الشاشة بعينيها الواسعتين. بينيسيو دل تورو يتمكن من التعامل مع اللحظات المتوترة بهدوء. يصوّر الفيلم الأشخاص العاديين والمجتمع وهم يختارون الحب في أحلك لحظاتهم.
يتجلى الفيلم في مشهد مطاردة السيارات، حيث يصبح أندرسون شاعراً في الحركة، ويمنحنا مشهد المطاردة مفتاح البنية السردية للفيلم.
يفكك أندرسون البطل الأمريكي التقليدي، ويقدم شخصية دخلت تاريخ السينما. بوب، هو من يحمل الفيلم، وعلى الرغم من محدوديته، إلا أنه مدفوع بالحاجة إلى حماية ابنته. ينتهي الفيلم بلحظة من الراحة، تشبه القصص الخيالية.
* One Battle After Another في الصالات
أخبار سوريا الوطن