الأحد, 20 أبريل 2025 05:14 AM

مرارة الفراق في "الحرة": قصص مؤثرة لموظفين فقدوا أحلامهم

مرارة الفراق في "الحرة": قصص مؤثرة لموظفين فقدوا أحلامهم

أحمد م. الزين

من داخل الجدران الزجاجية التي كانت تعكس نور الكاميرات وأصوات النشرات، خرج عدد من الصحافيين محمّلين بثقل التجربة والخذلان. لم يكن الأمر مجرّد إغلاق لمكتب أو فسخ عقود، بل كان زلزالاً شخصياً ومهنياً وأخلاقياً، طال حياة العشرات ممّن وهبوا سنواتهم، وأحلامهم، لقناة “الحرة”، معتقدين أنهم وجدوا فيها مساحة للحرية، وبيتاً يتسع لهم.

عمر حرقوص، الذي كان يشغل منصب رئيس تحرير في مكتب دبي، لا ينسى اللحظة التي شعر فيها بأنه ينتمي بصدقٍ حقيقي. “في لحظة ما، اعتقدتُ أنني أعمل في مكان يمنحني كامل الحرية كي أكتب، كي أتحدث عن العالم بلا قيود، عن الضعفاء والمقهورين بلا خضوع لأجندة سياسية”، يقول بصوت لا يزال يحمل بعضاً من الحنين. كان عمر يكتب عن القضايا المسكوت عنها: الإيزيديين، العلويين، السنّة، اللاجئين، المثليين، ضحايا العنف، والنساء المعنّفات. شعر بأن الصحافة أصبحت امتداداً لروحه، بل وسيلة للبقاء.

لكنه اليوم، لا يملك شيئاً. “لحظة طُردت منها، لم أعد أملك أوراقاً رسمية، ولا تأميناً، ولا حماية قانونية. كنت أعيش استقراراً نسبياً، دخلاً شهرياً، سقفاً فوق رأسي، خططاً صغيرة للمستقبل. واليوم، كل شيء تبخّر”. أكثر ما يؤلمه ليس الراتب، بل “خسارة الحلم، خسارة مساحة الحرية”. يستدرك: “هل تعرفون كيف تشعرون حين تُرمَون من الطابق العاشر وأنتم نائمون؟ هذا تماماً ما جرى”.

الحال ليس فردياً، بل هو مشترك بين عشرات من زملائه، كما تروي إحدى الموظفات في مكتب واشنطن، ممن جاؤوا إلى الولايات المتحدة بوعود بالإقامة الدائمة، ولم يحصلوا عليها. “أنا واحدة من هؤلاء. جئت بتأشيرة J1، وقيل لنا إن المؤسسة ستُباشر تغيير وضعنا القانوني بعد أشهر. مرّ أكثر من عامين ونصف، ولم يحدث شيء”. فجأة، ودون سابق إنذار، وُضعوا أمام خيار الرحيل خلال ثلاثين يوماً، أو البقاء بطريقة غير قانونية. “هذا يعني ببساطة: الترحيل. نحن نتحدث عن أكثر من 30 شخصاً يعيشون هذا الكابوس”، تقول. “ما حدث معنا ليس مجرد أزمة مهنية، بل أزمة حياة”.

من بيروت، تحكي سارة الخنسا، الصحافية التي أمضت ثلاث سنوات تقريباً في مكتب الحرة، تجربتها التي تركت أثراً عميقاً في قلبها. “كانت تجربة غيّرتني، صقلتني، منحتني الشعور بأنني أنتمي إلى مكانٍ يحترمني”، تقول. كان مكتب بيروت عائلة صغيرة، يعمل فيها الجميع كفريق. “لا مكان للتسلّط، لا مكان للفوقية. من يعمل في قسم الإنتاج يمدّ يد العون في المونتاج، ومن يكتب النصوص لا يتردد في حمل الكاميرا”.

لكن حين بدأ الحديث عن الاستغناءات، تغيّر كل شيء. “خسرتُ أقرب زملائي، وتعرّضت لأزمة صحية بسبب الضغط النفسي. شعرتُ كأن بيتنا يتفكّك”. كانت المديرة ميرال مساعد “مثل الأم الثانية لنا”، وحين غادرت، شعر الفريق بأن “البيت انهار فجأة”. يوم وصل بريد الإغلاق الرسمي، لم يكن مفاجئاً، لكن لم يكن سهلاً. “قررت أن أمنح نفسي يوماً واحداً للحزن، ثم بدأت أرسم خطة بديلة. قلت لنفسي: لن أستسلم”.

اليوم، تعمل سارة مستقلةً في عدة مشاريع. “أُقاوم، وأستمر”. وما تزال، مع زملائها، تحاول بناء “الحرة” الخاصة بهم، خارج مبناها.

من داخل المؤسسة نفسها، كانت تجري تطمينات ووعود، لكن ما حدث بعد ذلك أثبت هشاشتها. تقول موظفة أخرى فضّلت عدم ذكر اسمها: “كنا نأخذ وعوداً من ديدرا كلين، نائبة المدير التنفيذي، في اجتماعات يومية، وكانت تكرر علينا الكلام نفسه، لتخديرنا نفسياً”. الواقع كان أقسى من أيّ توقع. “لم نحصل على تعويضات نهاية الخدمة، ولا حتى إجازاتنا السنوية المدفوعة. بعضنا لم يتلقَّ حتى إنذار صرف”.

إحدى أكثر القصص إيلاماً هي لرجل من مكتب بيروت، وهو أب لثلاثة أطفال، تبلّغ قرار صرفه في اليوم الذي سبق أحد الشعانين، مساء السبت. “لم يُتح له حتى الوقت ليحصل على كتاب الصرف قبل يوم الاثنين”، تقول زميلته. “هؤلاء الزملاء لا يملكون أي مصدر دخل آخر غير راتبهم في الحرة”.

تحكي موظفة عملت لأكثر من عامين في قسم الإنتاج الرقمي عن تجربة وصفتها بأنها “مليئة بالإحباط وعدم الشفافية”. تقول: “منذ لحظة وصولي، اكتشفت أنني سأتحمّل نفقات لم يُذكر شيء عنها… الضرائب، السكن، حتى ضريبة على المساعدة السكنية التي قدموها لي أول أسبوع”. لم يكن لديها هاتف، أو بطاقة مصرفية، أو وسيلة اتصال. “تحمّلت كل شيء وحدي، دون أي دعم”.

على المستوى المهني، شعرت بأن النظام الإداري يفتقر إلى أي معايير. “الترقية تعتمد على العلاقات والانتماءات، لا على الكفاءة. حتى مراجعات الأداء كانت شكلية، بلا وضوح أو فاعلية”. ثم جاء قرار الفصل. “تلقّيت بريداً إلكترونياً عاماً. أُغلِقت حساباتي فوراً. لم أُمنَح فرصة لوداع الفريق. لم أحصل على تعويض، ولا على راتب آخر شهر، ولا حتى على إجازاتي”. الأشد إيلاماً بالنسبة إليها كان أن من اتخذ هذه القرارات “أشخاص عرب، من بيئتنا، يعرفون تماماً معنى أن تكون مهاجراً على تأشيرة مؤقتة، لكنهم فضّلوا حماية مصالحهم”. في لحظة الأزمة، رُقِّي بعض الموظفين ممّن تجمعهم علاقات خاصة مع الإدارة، فيما كان زملاؤهم يفقدون بيوتهم.

ربما كانت قناة “الحرة” تحمل في اسمها ما خالفته في قراراتها الأخيرة. حرية فقدها من آمنوا بها، وعدالة غابت عمّن صمدوا في وجه الأزمات. اليوم، هم فقط يطالبون بما بقي من كرامة، ومن حق في الحياة.

مشاركة المقال: