الإثنين, 13 أكتوبر 2025 02:03 AM

مظاهرة الجامع الأموي: هل هي حرية تعبير أم تهديد للأمن القومي السوري؟

مظاهرة الجامع الأموي: هل هي حرية تعبير أم تهديد للأمن القومي السوري؟

أحمد عسيلي: إن أعلى درجات الوعي، سواء على مستوى الفرد أو الأمة، تكمن في القدرة على مواجهة الذات بصدق وواقعية، دون تجميل أو إنكار، وكذلك في القدرة على فهم البيئة المحيطة والتكيف مع اللحظة الراهنة. فالواقع متغير باستمرار، ومن كان يتصور قبل أشهر قليلة أن حكم عائلة الأسد سينتهي بهذه السرعة، وأن بشار سيغادر المشهد السياسي بشكل كامل!

بهذه الروح، يجب أن ننظر إلى الأحداث التي جرت في دمشق قبل أيام، عندما خرجت مظاهرة محدودة من الجامع الأموي، لم يتجاوز عدد المشاركين فيها بضع مئات، لتحميل النظام والمجتمع المصري مسؤولية ما يحدث في غزة. ورغم أن المظاهرة كانت عابرة، إلا أنها سرعان ما تضخمت في وسائل الإعلام. فقد استغل إعلاميون مصريون معروفون، مثل أحمد موسى ونشأت الديهي ولميس الحديدي، هذا المشهد وقدموه على أنه موقف عام للسوريين، بل دعا بعضهم إلى ترحيل اللاجئين السوريين من مصر.

أما على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد انتشرت حملات تحريضية عنيفة، غالبيتها من صفحات مجهولة لا تعكس حقيقة العلاقة العميقة بين الشعبين، لكنها كشفت عن هشاشة الخطاب العام وسرعة تحوله إلى أداة للتهديد.

السؤال الذي نطرحه من موقعنا السوري لا يتعلق بردود الفعل في الإعلام المصري، والتي لها ظروفها الخاصة، بل يخصنا نحن: هل ما حدث هو ممارسة طبيعية لحرية التعبير من قبل مجموعة محدودة، وهل واجبنا هو الحفاظ على حق الجميع في التعبير عن رأيهم، حتى لو كان صوتًا نشازًا، أم أنه تطاول مرفوض يمس الأمن القومي السوري؟

هنا نصل إلى سؤال جوهري: كيف نعرّف نحن السوريين حدود الحرية في ظل الظروف الراهنة؟ فمفهوم الحرية ليس ثابتًا بين الدول والمجتمعات، بل يتغير مع السياق الاجتماعي والتاريخي والنفسي. ففي فرنسا، عاصمة الأنوار والحريات، توجد قوانين صارمة تمنع إنكار "الهولوكوست"، ليس كتقييد للحرية، بل كحماية لذاكرة جماعية ما زالت جراحها مفتوحة. وفي النمسا، ظهرت منذ سنوات قضية امرأة أثارت جدلًا واسعًا، حين أيدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكمًا صادرًا بحقها، معتبرة أن الكلام المسيء للرسول محمد لا يندرج ضمن حرية التعبير.

فالحرية تبقى مقيدة بشروط أخرى، حتى في الممارسات الفردية، من العلاقات الجنسية إلى استهلاك المخدرات. فما تسمح به دولة قد تحظره أخرى. الحرية هنا ليست قيمة مطلقة، بل انعكاس لسياق اجتماعي وتاريخي محدد، ولقدرة نفسية جماعية على تحمل حدود معينة من الاختلاف.

دعوني أقدم مثالًا آخر من باريس: شاهدت يومًا رجلًا من أصول إفريقية يقف في محطة مترو، يسب فرنسا والحضارة الفرنسية، ويصف الجيش الفرنسي بأنه يرتكب الجرائم. مر الناس بالقرب منه، بعضهم بعبوس، وبعضهم بضحكة ساخرة، ثم واصلوا طريقهم كأن شيئًا لم يكن. هذا المشهد يكشف عن قدرة نفسية جماعية على تحمل النقد. من الصعب تخيل مشهد مماثل في دمشق أو القاهرة أو عاصمة خليجية، إذ لا أظن أن سوريًا يمكن أن يقف في إحدى ساحات بيروت، ويطلق كلمات مسيئة بحق الدولة أو الجيش اللبناني، دون أن يواجه رد فعل غاضب أو عنيف. هنا يظهر الفارق: ما يتحمله مجتمع ويدخله في خانة الحرية، قد يعتبر في مجتمع آخر تعديًا لا يغتفر.

هذا كله يستلزم منا كسوريين جهدًا جبارًا لخوض نقاشات حقيقية وصريحة، نحدد من خلالها ما يناسب مجتمعاتنا وما لا يناسبها. وحتى حين نتوصل إلى قرارات أو توافقات، فهي لن تكون نهائية أو جامدة، فالحريات نفسها في العالم ما زالت في حركة دائمة، تزداد في مجالات معينة وتقلص في أخرى، تتوسع في بلدان وتتراجع في غيرها، بحسب كل مجتمع، بل هي تعيد صياغة نفسها باستمرار وفقًا للظروف المحلية. بهذا المعنى، الحرية ليست وصفة جاهزة بل عملية تفاوض مستمرة مع الذات ومع الواقع.

وفي سوريا، نحن اليوم مجتمع منهك، أرهقته الحروب، وممزق إلى ثلاث إدارات سياسية متنافسة، ومختلف على هويته الاجتماعية والثقافية. نعم، لتكن لدينا الجرأة ولنقل هذا بصراحة: جيشنا الذي كان يفترض أن يكون عماد الوحدة الوطنية تفكك منذ عقود بفعل الفساد والمحسوبيات والطائفية، مما جعل سقوطه مدويًا خلال أيام قليلة. نحن أيضًا مجتمع فقير، استنزفت عائلة الأسد وأعوانها موارده ومدخراته، وغير قادر حتى الآن على حماية نفسه أو توحيد صفوفه. لذلك، فإن حدود حريتنا يجب أن تُبنى على قدراتنا الراهنة، لا على شعارات مجردة.

نقول هذا بكل مسؤولية، وبإحساس، إن الوضع الذي نعيشه اليوم هو وضع آني ومرحلي، هذا الضعف ليس هويتنا الوطنية، بل حالة عابرة فرضتها عقود من الاستبداد والحرب، حالة يجب أن تتغير قريبًا. وما حدث عند الجامع الأموي ليس إلا صورة مصغرة عن خطورة غياب تعريف واضح للحرية وحدودها، حدث محدود، لا يتجاوز بضع عشرات أو مئات، تحول في ساعات إلى أزمة رمزية وإلى مادة تهديد في الخطاب العام. إنها دعوة كي نواجه أنفسنا ونرسم نحن، من داخل واقعنا، الحرية التي تناسبنا وتفتح الطريق نحو الاستقرار والبناء.

مشاركة المقال: