الخميس, 2 أكتوبر 2025 02:13 AM

الاقتصاد السوري على المحك: استراتيجيات جذرية لإنقاذ الليرة من الانهيار

الاقتصاد السوري على المحك: استراتيجيات جذرية لإنقاذ الليرة من الانهيار

أكد الدكتور ياسر المشعل، نائب عميد كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، أن الوضع النقدي في سوريا يمر بمرحلة معقدة وغير مسبوقة، حيث خسرت الليرة السورية أكثر من 26 ألف بالمئة من قيمتها خلال العقد الماضي، مما أثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للمواطنين ورفع تكاليف المعيشة إلى مستويات قياسية.

وفي محاضرة ألقاها خلال ورشة عمل في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق بالتعاون مع غرفة تجارة دمشق، تحت عنوان "استراتيجيات الإصلاح النقدي والاستقرار المالي في سوريا"، أوضح المشعل أن التضخم سجل معدلات قياسية بلغت 140 بالمئة في عام 2023، في حين لا تتجاوز الاحتياطيات الأجنبية 200 مليون دولار، مما يجعل المصرف المركزي غير قادر على التدخل الفعال في سوق الصرف أو تمويل الواردات الأساسية.

وأشار إلى أن الأزمة تفاقمت بسبب الفجوات السلبية في الطلب والاستهلاك، وتراجع القدرة التصديرية نتيجة للعقوبات وتدمير البنية التحتية، بالإضافة إلى ركود القطاع المصرفي الذي تراكمت فيه الودائع دون أن تتحول إلى قروض إنتاجية.

واقترح المشعل رؤية إصلاحية ترتكز على استعادة الثقة بالليرة السورية كحجر الزاوية لأي إصلاح نقدي ناجح، ويشمل ذلك وقف التمويل بالعجز الحكومي عبر طباعة النقود، وتعزيز الشفافية من خلال نشر البيانات الاقتصادية والنقدية بشكل منتظم، ومكافحة الفساد الذي يقوض الثقة بالمؤسسات ويشجع على التعامل بالعملات الأجنبية. كما دعا إلى تطوير سوق صرف أجنبي منظم وشفاف يحدد سعر الصرف وفقًا لقوى العرض والطلب.

وشدد المشعل على أهمية دعم الإنتاج الحقيقي وتعزيز العرض الكلي من خلال توجيه التمويل نحو القطاعات الإنتاجية، وخاصة الزراعة والصناعة، وإيجاد برامج ميسرة لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتقديم حوافز حقيقية للصادرات بما يسهم في تأمين العملة الصعبة. كما رأى أن تقليل الاعتماد على الاستيراد عبر دعم الصناعات المحلية يعد خطوة أساسية لتحسين ميزان المدفوعات.

وفي الجانب النقدي، أكد ضرورة تبني سياسة مرنة تركز على إدارة الكتلة النقدية بدل الاعتماد على سعر الفائدة، مع تطوير أدوات حديثة للسياسة النقدية، والسعي نحو تعاون دولي لرفع العقوبات وجذب الاستثمارات وإعادة دمج القطاع المصرفي السوري في النظام المالي العالمي.

ووضع المشعل خطة زمنية للإصلاح تمتد على ثلاث مراحل، تبدأ المرحلة الأولى بين عامي 2025 و2026 بهدف تحقيق الاستقرار والإنعاش عبر وقف طباعة النقود لتمويل العجز، وضبط الكتلة النقدية، ومكافحة المضاربة في سوق الصرف، ودعم القطاع الزراعي وتطوير أنظمة الدفع الإلكتروني. أما المرحلة الثانية بين 2027 و2029 فتستند إلى التعافي والنمو من خلال توجيه التمويل للقطاعات الإنتاجية، وبناء احتياطيات أجنبية، وإصلاح القطاع المصرفي، ومحاولة دمج الاقتصاد غير الرسمي في القنوات الرسمية، مع اعتماد نظام سعر صرف أكثر مرونة. وتصل الخطة إلى مرحلتها الثالثة ما بين 2030 و2035، حيث يجري الانتقال إلى نظام استهداف التضخم كإطار للسياسة النقدية، وتطوير سوق مالية عميقة، وتعزيز استقلالية المصرف المركزي، وتوسيع قاعدة الشمول المالي من خلال أنظمة دفع رقمية متكاملة.

وتطرق المشعل إلى خطة السلطات النقدية لحذف صفرين من العملة السورية في ديسمبر/ كانون الثاني 2025، مشيرًا إلى أن الخطوة بحد ذاتها ليست أكثر من إجراء فني يسهل التعاملات اليومية، لكنها لا تكفي لمعالجة جذور الأزمة ما لم تترافق مع إصلاحات شاملة. واستشهد بتجارب دولية مختلفة، حيث نجحت تركيا عام 2005 في حذف ستة أصفار من عملتها، بعد أن رافقت العملية إصلاحات اقتصادية وسياسية عميقة، في حين فشلت فنزويلا وزيمبابوي في محاولات متكررة لحذف الأصفار بسبب غياب الإصلاحات الحقيقية، الأمر الذي أدى إلى تضخم مفرط وانهيار كامل للثقة بالعملة.

وأكد المشعل أن التضخم هو نتيجة مشتركة لعوامل داخلية وخارجية، فالحكومة تتحمل قسطًا كبيرًا من المسؤولية بسبب تمويل إنفاقها من خلال الديون وطباعة النقود، فيما قصر المصرف المركزي في إدارة الكتلة النقدية وتوجيهها نحو الإنتاج. أما القطاع الخاص، فقد اتجه في معظمه نحو المضاربة والتجارة غير الرسمية بدلاً من الاستثمار الإنتاجي، في حين ساهمت العقوبات الخارجية وتراجع القدرة التصديرية في شح العملة الأجنبية وارتفاع تكاليف الاستيراد، وهو ما انعكس مباشرة على أسعار السلع والخدمات.

وتوقع المشعل ثلاثة سيناريوهات محتملة لتغيير العملة وحذف الأصفار. ففي السيناريو المتفائل، يمكن أن يستقر سعر الصرف بحلول 2026 مع انخفاض التضخم إلى أقل من 15%، إذا ما نفذت الإصلاحات بشكل كامل. أما السيناريو المعتدل فيفترض تطبيق إصلاحات جزئية، مما قد يؤدي إلى تحسن تدريجي مع بقاء التضخم في حدود 25 إلى 30%. بينما السيناريو المتشائم، وهو الأخطر، يرتبط بفشل الإصلاحات، ليستمر التدهور النقدي ويظل التضخم عند مستويات مرتفعة، مع نمو اقتصادي ضعيف أو سلبي. وأوضح أستاذ الاقتصاد أنه وفقًا لمعطيات الواقع الحالي فإنه يميل إلى توقع السيناريو المعتدل المائل إلى المتشائم.

وأبرز المشعل جملة من التحديات التي قد تعيق الإصلاح، في مقدمتها غياب الإرادة السياسية أو التردد في وقف التمويل بالعجز، وضعف المؤسسات وانتشار الفساد، فضلاً عن استمرار العقوبات الاقتصادية والقيود على التجارة والوصول إلى الأسواق المالية الدولية. كما يشكل الوضع السياسي والأمني الهش عائقاً أمام استعادة الثقة، إلى جانب اتساع الاقتصاد غير الرسمي، وتدهور البنية التحتية، وهجرة الكفاءات.

واختتم المشعل عرضه بالتأكيد على مجموعة من التوصيات أبرزها ضرورة وقف التمويل النقدي للعجز الحكومي، وإدارة الكتلة النقدية بما يتناسب مع النمو الحقيقي، وتوجيه التمويل للقطاعات الإنتاجية، مع تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد وتطوير سوق صرف أجنبي منظم. كما شدد على أهمية التنسيق بين السياسات المالية والنقدية، والسعي إلى تعاون دولي لتخفيف العقوبات، إلى جانب بناء القدرات المؤسسية وتعزيز الشمول المالي والتحول الرقمي.

وأكد المشعل أن استقرار الوضع النقدي في سوريا لا يمثل هدفاً نهائياً بحد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة وتحسين مستوى معيشة المواطنين، وأن رؤية 2030 لاقتصاد سوري مستقر ومتنوع ومرتبط إقليمياً ودولياً لن تتحقق إلا عبر إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحات شاملة، وجهود سورية جدية لإعادة بناء الاقتصاد الوطني وإعادة الثقة بالعملة الوطنية. وكتب المقال محمد راكان مصطفى.

مشاركة المقال: