الأحد, 4 مايو 2025 02:37 AM

الذكاء الاصطناعي والأدب: هل تستطيع الآلة أن تحل محل الكاتب؟

إيهاب عنان

عندما يلتقي العقل البشري بالآلة، وتبدأ الخوارزميات في محاكاة الأفكار والمشاعر التي لطالما اعتبرناها محض ملكات إنسانية، يطرأ سؤال أساسي: هل سنرى يومًا آلة قادرة على إبداع الأدب كما يفعل الكاتب البشري؟ وهل سيكون للمشاعر، والأحلام، والآلام، والآمال، التي هي محركات الأدب، أن تجد لها مكانًا في عالم خوارزمي؟ هنا، يكمن التحدي: ليس في القدرة على الكتابة، ولكن في محاولة فهم “ما وراء الكتابة”—الفكرة الفلسفية التي تسكن النص وتمنحه عمقه. فهل يمكن لذكاء اصطناعي مثل “شات جي بي تي” وباقي نماذج توليد النصوص بالذكاء الاصطناعي أن تخلق الأدب كما خلقه شوبنهاور أو كافكا؟ وهل يمكن لمثل هذه الآلات أن تمنح الكلمة روحًا تلامس الأعماق الإنسانية؟

في عالم الفلسفة الرقمية، حيث يغيب الحد الفاصل بين الإنسان والآلة، تتداخل الأسئلة العميقة حول ماهية الإبداع. يعتبر الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أن “الوجود يسبق الجوهر”، وهو ما يعني أن الإنسان، بوجوده، يصوغ نفسه ويعبر عن وجوده من خلال الفعل—بما في ذلك الكتابة. لكن هل يمكن لآلة أن “توجد” قبل أن تُبرمَج؟ وهل يمكن أن يُعتبر ما تكتبه مجرد محاكاة أو توظيف حروف، أم أنه يُنتج بفعل قوى خفية قد تُشبه تلك التي تمنح الأدب طابعه البشري؟

الذكاء الاصطناعي، مثل “شات جي بي تي”، هو أداة تُمكّننا من توليد النصوص بناءً على مجموعة معقدة من الخوارزميات التي تعالج البيانات التي تُعتبر مصدر حياتها بطرق تتيح لها محاكاة أساليب كتابية متعددة. لكن على الرغم من القدرة الفائقة على تقليد الأساليب، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون “مبدعًا” بالمعنى الحقيقي . إذ كيف يمكن لآلة أن تخلق شيئًا جديدًا بعيدًا عن الحسابات والبرمجة التي توجّهها؟ هل يمكن لها أن تكتب عن المعاناة الإنسانية بصدق، وهي التي لا تعرف الألم؟

هذا هو المكان الذي يظهر فيه التحدي الفلسفي: في الكتابة البشرية، تتداخل التجربة الشخصية للكاتب مع صوته الأدبي، مما يولد نصًا ينتمي إلى الوعي البشري. وفي هذا السياق، لا تكمن الكتابة في محاكاة اللغات أو الأساليب الأدبية فقط، بل في التعبير عن التجربة الإنسانية بكل تناقضاتها وتعقيداتها. هذه الخاصية، أي القدرة على استخراج المعنى من الألم والعزلة، على سبيل المثال، هي ما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي التوصل إليه – في الوقت الحاضر – كوننا رغم هذا الإندهاش الكبير بنتاج الذكاء الاصطناعي اليوم ، إلا أننا مازلنا بنوعه الأول “الضعيف او الضيق” ولم نتعداه الى “العام” و”الفائق” .

عند الحديث عن نماذج توليد النصوص ومنها “شات جي بي تي” بشكل خاص، نجد أن هذه الأداة تمثل قفزة كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي، فهي ليست مجرد مولد نصوص. إذ أنها تتعامل مع اللغة كما يتعامل الفيلسوف مع مفاهيمه: يعيد تشكيلها، يعالجها، ويضعها في سياقات جديدة. ولكنه يبقى، في جوهره، مجرد جهاز يتعامل مع الأنماط، محاكياً الأساليب اللغوية التي تم تدريبه عليها، دون أن يمتلك وعياً حقيقياً أو هدفاً خارج نطاق التعليمات التي برمجته عليها.

إلى هنا، فإن “شات جي بي تي” قد يثير إعجابنا بقدرته على توليد نصوص مقنعة، ولكنه يظل في النهاية صورة فوتوغرافية للنمط اللغوي الذي يُطلب منه محاكاته. ما يفتقده هو القدرة على التفكير الفلسفي أو التأمل الذاتي في معنى الكلمات والعبارات التي يولدها. فهل يمكن لجهاز أن يتساءل عن معنى الوجود أو يعبر عن القلق الوجودي كما فعل أفلاطون أو هيغل؟ بالتأكيد لا.

لكن يبقى السؤال الجوهري: هل هذا يجعل الذكاء الاصطناعي مجرد آلة فاقدة للروح، أم أنه يفتح لنا أفقًا جديدًا في فهم معنى الإبداع ذاته؟ فربما يكون “شات جي بي تي” ليس سوى بداية لاستكشاف أشكال جديدة من الكتابة، حيث تتداخل الآلة والإنسان في مجال واحد ويعملان كفريق واحد.

لنعد إلى فكرة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي يرى أن الأدب هو “مفتاح لفهم الإنسان في علاقته مع الوجود”. في هذا المعنى، يصبح الأدب أكثر من مجرد كلمات منظمة؛ إنه كشف للحقيقة الإنسانية، وحوار مع الذات والآخر والعالم. أما إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على تقليد هذه الحقيقة أو هذه العلاقة، فهل يمكن أن نعتبر ما يكتبه، حتى وإن كان منطقيًا وجميلًا، عملاً أدبيًا حقيقيًا؟

من المؤكد أن نموذج الذكاء الاصطناعي يمكنه إنتاج نصوص مبتكرة، وفي بعض الأحيان قد يبدو لنا أن هذه النصوص ليست أقل إبداعًا من تلك التي يكتبها الإنسان. ولكن يبقى الخلل: النصوص التي تُنتج بواسطة الآلة تفتقر إلى الوجود الذي يمنحها طابع “الوجود الإنساني” الفريد. هذا الوجود الإنساني ليس مجرد فعل الكتابة، بل هو الفعل الذي ينبثق من تجربة فردية، ومن كل تلك التفاصيل التي تشكل حياة الإنسان.

إذا كان الأدب هو محاولة الإنسان للانفتاح على عوالمه الداخلية ومعاناة وجوده، فهل يمكن لآلة أن تكون قادرة على إنتاج هذا “الفتح”؟ يبدو أن الجواب يظل معلقًا في أفق غير محدد، إذ أن الذكاء الاصطناعي، رغم تطوره، لا يزال عاجزًا عن فهم أو محاكاة تجارب الوجود البشرية التي لا يمكن اختزالها إلى بيانات أو خوارزميات.

لكن هذه التحديات التي يثيرها الذكاء الاصطناعي، على الرغم من كونها فلسفية وعميقة، لا يجب أن تكون سببًا في التحفظ التام على التفاعل بين الإبداع البشري والتكنولوجيا. على العكس، قد تكون هذه اللحظة هي بداية لتعاون مثمر بين الإنسان والآلة، حيث تتيح الأدوات مثل “شات جي بي تي” للكتاب أدوات جديدة للتعبير عن أفكارهم، ولكن دون أن تحل محل الأبعاد الإنسانية العميقة التي تغذي النصوص الأدبية.

الفلسفة الرقمية، كما أرى، تدعونا إلى إعادة تعريف الإبداع في عالم يتزاوج فيه الفكر البشري مع الآلة. سيظل الأدب، في جوهره، مساحة للتعبير عن الذات والوجود، ولكن الأدوات الحديثة قد تفتح أمامنا آفاقًا جديدة لفهم هذا الوجود واحتضانه. وربما، في المستقبل، سيعيش الأدب في توازن مع الذكاء الاصطناعي، ويظل الإنسان، كما كان دائمًا، المبدع الذي يصوغ الحياة في كلمات.

(اخبار سوريا الوطن 1_جريدة أوروك)

مشاركة المقال: