الإثنين, 23 يونيو 2025 07:10 PM

السوريون بين صراع الأعداء: الحاجة النفسية للموقف في ظل غياب الحليف الواضح

السوريون بين صراع الأعداء: الحاجة النفسية للموقف في ظل غياب الحليف الواضح

في الأيام الماضية، وجد السوريون أنفسهم أمام مشهدٍ بدا وكأنه فرصة للفرح: إسرائيل تضرب قلب إيران وتقتل شخصيات بارزة، ثم ترد إيران بوابل من الصواريخ. للبعض، بدت اللحظة كحساب مع عدوين تسببا في خراب طويل. لكن سرعان ما بدأ الفرح يختنق، وكأنك تهدي فرحك لجهة مجهولة. نحن الذين اكتوينا بنار القتل الصامت وقصف الوطن في ظل صمت العالم، ندرك أن هذه الحرب ليست حربنا. وكلما حاولنا الفرح، يفسد السؤال لحظة الانتصار: مع من نقف؟ (وهو سؤال يطرحه الإيرانيون أنفسهم). هذا الشعور يحتاج لمبرر أخلاقي، لموقف سياسي ورؤية تزيد الفرح وضوحًا.

ما يحدث ليس مجرد تبادل ضربات بين دولتين بعيدتين. إنها لحظة نادرة يرى فيها السوري مشهدًا عسكريًا كبيرًا دون أن يكون الضحية المباشرة. إيران أرسلت ميليشياتها لقتلنا وتهجيرنا، وإسرائيل اعتادت قصف الأراضي السورية دون تردد. فجأة، العدو يضرب العدو، ما يثير ارتياحًا تلقائيًا، لكنه ارتياح ثقيل.

لم يكن المشهد بسيطًا، ولا الفرح خفيفًا، بل مزيجًا مربكًا من الرغبة في الانتقام من إيران، والخجل من هذا الانتقام لأنه جاء بواسطة إسرائيل. الحياد صعب حتى في أبسط الأمور، ففي مباراة كرة قدم، تميل لفريق ما، ربما لأن صديقك يشجعه، أو لأنك تحتاج للشعور بأنك مع طرف ما. الانحياز يعطي للمشهد معنى، لكن في الحروب، يصبح الحياد شعورًا ثقيلًا ومخجلًا، كأنك ضعيف أو جبان. لهذا، يبدأ العقل في صناعة القصص: "أنا مع الطرف الفلاني لأنه أقرب إلي"، أو "أنا ضد الطرف الآخر لأنه أكثر ظلمًا". نحن بحاجة لسردية لفهم الموقف وأنفسنا.

الأمر لا يتعلق فقط بالحروب والسياسة، بل هي حاجة نفسية عميقة تمس كل البشر. هنا تظهر أهمية نظرية عالم النفس الاجتماعي الأمريكي جوناثان هايدت، الباحث في العلاقة بين المشاعر والسياسة، والذي اشتهر بأعماله حول كيفية صنع الناس لقناعاتهم السياسية والدينية. هايدت يقترح صورة جميلة: العقل يشبه فارسًا صغيرًا يمتطي فيلًا ضخمًا، الفيل هو العاطفة، والفارس هو التفكير المنطقي. بمعنى أن الناس يشعرون أولًا، ثم يأتي التفكير المنطقي كمحامٍ يبرر الطريق الذي اختاره الفيل. لهذا، تبدو التبريرات اليوم محاولة لتجميل مشاعر عميقة مربكة أو محرجة. هناك من يفرح بقصف إيران لأنه يكره الاحتلال الإيراني لسوريا، وهناك من يفرح لقصف إسرائيل لأنها عدو تاريخي.

كل هذا صحيح جزئيًا، لكنه لا يفسر كل شيء. أحيانًا يكون الفرح أكثر قسوة من أن نقوله كما هو، نفرح لأننا تعبنا من الهزيمة، ونحتاج للشعور بأن العنف عاد إلى من دمرونا، نحتاج لأن يشعر أحد بالألم مثلنا، حتى لو لم يكن انتقامًا مباشرًا. ولأن المشاعر تكون قاسية أو عنصرية، يبدأ العقل (الفارس الصغير) في بناء قصة محترمة تليق بمظهرنا الاجتماعي والسياسي. كثيرون لا يريدون أن يقولوا: "أنا ضد إيران لأنني لا أحب الشيعة"، أو "أنا ضد إسرائيل لأنني أكره اليهود". هذه عبارات ثقيلة وخطيرة، خاصة في الشتات، وغير مقبولة اجتماعيًا. لهذا، يبدأ الإنسان ببناء رواية أكثر احترامًا: "أنا ضد سياسات إيران"، أو "أنا مع حق الفلسطينيين". ليس لأنه يكذب، بل لأنه بحاجة لأن يبدو أمام نفسه والآخرين وكأنه يتحرك من دافع أخلاقي نبيل، لا من دافع غريزي أو طائفي أو شخصي.

لكن حتى مع هذه التبريرات، تبقى الأزمة الكبرى أن السوري اليوم لا يملك مشروعًا سياسيًا واضحًا يُعرّف مَن الحليف ومَن العدو. لا يستطيع أن يرى في إيران حليفًا بعد كل ما فعلته، ولا يستطيع أن يقنع نفسه بسهولة بتجاوز "تابو" إسرائيل المتجذر في ضميره الجمعي. العدو هنا ليس نقيًا، والحليف مستحيل. كل شعور في هذه الحرب هو لحظة شخصية أكثر مما هو خيار سياسي. فحتى لو جاء اليوم مشروع سياسي واضح ومتماسك، ستبقى مسألة الحلفاء مؤلمة ومحرجة. هل يمكن حقًا أن نتحدث يومًا عن إيران كحليف بعد أن امتلأت بيوتنا بأصوات قتلاها وخراب ميليشياتها؟ وهل يمكن أصلًا تجاوز فكرة العداء مع إسرائيل؟ نحن عالقون بين طرفين لا نستطيع اعتبار أحدهما حليفًا، ولا نستطيع أن نرى في الآخر خلاصًا.

لهذا كله، يبدو المشهد كمسرحية طويلة لسنا فيها إلا الجمهور، يحاول أن يقتنص أي شعور بالعدالة، ولو كان شعورًا زائفًا، فقط كي لا يشعر أن حياته بلا معنى.

مشاركة المقال: