الأحد, 1 يونيو 2025 04:06 AM

الصحافة السورية: بين البحث عن الحقيقة وبناء الوطن

الصحافة السورية: بين البحث عن الحقيقة وبناء الوطن

يبدو مخاض الحريات عموماً والصحفية منها خصوصاً، من أصعب الأسئلة و أكثرها إلحاحاً في الحالة السورية الوليدة، بعد عقود من تأميم كليهما، اغتيالاً وقهراً وتهجيراً، على أيدي نظام الأسدين وبعثهما. ومخاض الصحفي والحريات أكثر إرباكاً وتعقيداً، بقرينها السياسي، ذلك أن للأول قدره المحتوم، لا انفكاك منه إلا بالطلاق وهجر المهنة، فيما يحتمل الثاني”السياسي” مناورات التغيير بين حزب وتجديده أو الانتقال حتى لضفة الخصوم، دليله الميكافيلية، أو الواقعية السياسية.

كل يوم تزدحم صفحات التواصل الاجتماعي، بسلوكيات تحاول تصنيف الصحافة بدورها و روادها، وحدودها، وانحيازاتها. تبدأ من الانطباعات الشخصية مروراً بتعريفات لا تقارب الحالة السورية، وصولاً لاصطفاف بين رواد مذهب ونقيضه، ما يزيد إرباك المشهد ” الهش” أصلاً، وسط غياب المنظمومات والمؤسسات التي عادة ما يسند لها دور المنظر الفكري وتأطير القضية بما يناسب كل مجتمع وخصوصيته.

– ” الصحافة هي الحرية” لماذا نحاول اختراع العجلة وقد انتهى العالم. – أمس رد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على سؤال الصحفية”هذا سؤال وقح” وفي سياق زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى لبنان كان قد وبخ علناً، أحد صحفي الليفيغارو، هذه مؤشرات سريعة في أعرق الديمقراطيات”. مقتبس من إحدى الحوارات.

حسناً لمقاربة” لا تفنى الغنم ولا يموت الذئب” نرتاح من الصحافة كسلطة رابعة، ونجرب السلطة القضائية المتجذرة تاريخياً مقارنة ب”الرابعة”مأسسة وتسلسل وهرمية وقواعد ومدارس وتنظير.

الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (Montesquieu)، في كتابه “روح القوانين” (De l’esprit des lois) الذي نُشر عام 1748، يدعو لفهم “روح” أو جوهر القوانين وعلاقتها بالمجتمع والبيئة والثقافة. معبراً بذلك عن “النسبية القانونية” والتي تلخص دعوته بوجوب، أن تنبع القوانيين من طبيعة المجتمع، وعاداته، ودينه، وجغرافيته. هنا مقياس مهم للصحافة وروادها لفهم أولوية وخصوصيات كل تجربة وظروفها وتحدياتها والمحافظة على “خطوط التماس” بين حق الناس بالمعرفة والخبر والتحليل وحتى التوجيه غير المباشر، وبين ظروف الواقع أو السلطة فنبقي ” شعرة معاوية” ولا نكسر القلم.

دائما العلاقة إشكالية، لن ينجو منها إلا محترف وذكي وشجاع لا يخضع ولا يستسلم، يفوز بالجولة النهائية، بعد ماراثون طويل. العمل الصحفي هو التزام أخلاقي قبل أن يكون مهنة. هو بحث دائم عن الحقيقة، ونقلها للجمهور بأمانة وموضوعية، بعيداً عن التزييف أو التحيز.

من المقصود بالتحيز؟. غالباً السلطة، سياسة، مالية، منظومة قيمية. كيف لا نتحيز؟ . قد تكون السلطة قمعية، مخادعة، خطتها العامة تختلف عن كواليسها، تفعل عكس ما تعلن، تأخذ المجتمع رهينة لغاياتها، هذه قضايا أخلاقية لا يمكن للصحفي الحياد فيها، الموقف مكلف لكنه أمانة وإن أثقلها حملها.

ثمة روح للسلطة أيضا، من الضروري فهمهاً، إحاطة بأهدافها ومشروعها، فليست دائماً ماكرة وخبيثة وشريرة، ليست عدوة للصحفي والحريات، يمكن أن تلتقي و الصحفي فتتحقق وحدة الهدف ويصبح الصحفي شريكاً لها، خادماً لقضاياها باعتبارها قضايا الأمة، محاربة الفقر، المشاريع المستدامة، مواجهة قوى التطرف، الاعتداء على الأمة هذه قضايا قدر الصحفي أن يكون رديفا للسلطة، لكن حذارِ أن يتحول للبروغندا، الصحفي ليس دعائياً، الرسالة النبيلة كثيراً ما تتعرض لتناقضات حادة؛ فالصحفي يعيش صراعاً مستمراً بين استقلاله المهني وضغوط رأس المال، أو بين حاجته للحرية وملاحقة السلطة له إن تجاوز الخطوط المرسومة.

هي سلطة رابعة وخامسة حين تكون بخدمة مجتمعها، تعرف أوجه خلل السلطات الثلاث وتلاحقها كشفاً وتفنيداً ومراقبة، لكنها لا تتغول بفتح جبهة مواجهة وحيدة، إن لم تكن التشريعات القضائية والسياسية والمجتمعية، ضامنة لصون حريتها وديموتها، غير ذلك انتخار لا طائل ولا قيمة له.

الصحافة، في جوهرها، انحياز للناس، للحقيقة، وللحرية. هذه المهنة قدر لعشاقها، تشبه غرامهم الطفولي، بؤس وسقم أم حب وفوز، شيء يشبه الأباطرة والملوك “القصر أو القبر”، أو إن شئت” فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا”.

ما الذي يمكن فعله في الحالة السورية، وولادتها من الخاصرة، بين حرية الإعلام وقيود السلطة، بين جمهور ما زالت جراحه متقيّحة، وبلد بحاجة للتعافي وعدم نكء الجراح، بين مغامرة عاشق للصحافة وكشفها وتحقيقاتها، وبين نداءات مكررة ما زال الوقت باكراً، أو ثمة قيود غير معلنة تواجه المهنة وأبناءها.

صحفي ووطني ترك الشيطان يصور أن ثمة تناقضات لا تلتقي أمر يؤدي لنتائج أقلها الفشل في الرسالة الإعلامية، المرسل او الصحفي عليه تتبع رجع الصدى من شارعه، فيما لا تملك أي سلطة رفاهية ترك الفضاء العام، يأخذ المشهد لخيارات سلبية. السلطة تراقب، هي ليست المرسل لكنّ جزءاً من مهامها مراقبة الأداء، وبانتظار التشريعات الناظمة للعلاقة، يسود الانحياز للمهنة والإجابة عن سؤال كيفية خلق إعلام يليق بسوريا.

لا بد من المواجهة للإجابة، كما الصحافة كمهنة، علنية، صريحة، ناقدة حتى للذات، شرسة حد الصدام، محافظة على ديمومتها فلا تكسر أقلامها وتبكي حريتها حين فوات الندم. الخيار المهني يبدأ بنقد الذات، قبل نقد السلطة، فثمة اتجاهين اليوم كلاهما يريد الهدف ذاته، لكن أحدهما من خارج الحدود الجغرافية لسوريا، وفرض اشتراطات مسبقة، منطلقاً من الحرية أولاً، وأنه لا حياة للصحفي والصحافة من دونها. الاتجاه الثاني يراعي خصوصية كل حالة ومجتمع ويتكيف مع المعطيات وتهطل سحبه وقطراته على الصخور الصماء حتى تحفر بها الأخاديد.

إعلام يليق بسوريا الجديدة من دون صحفي يؤمن برسالته ودوره وأدواته ومعرفته، الإيمان قبل الفعل، لأنه سيأخذنا للنتيجة التي نريد. على الصحفي السوري أولاً دوناً عن غيره كصاحب قضية، أن ينصب خيمته في ساحة الأمويين وسط دمشق، أو لتكن على أطراف الغوطة المنهكة، أو لا بأس جنوباً في ساحة 18 آذار في درعا، افهم اشتراطات المهنة، المهم أن تبدأ، وتتحمل وتعاني وتصبر، هذا قدرك، فكما نتحمل ساعات انتظار طويلة كصحفيين أمام بوابات قصور الملوك والرؤساء، بدهي أن نتحمل بعض جبهات المواجهة وشظف العيش قليلاً.

كيف يكتب صحفي عن وطن متعب حد النزيف من خارج حدوده الجغرافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، هذه كارثة ليست صحافة، في ظروف بلد مستقر تحتاج “حاستك السادسة”. في الحالة السورية تحتاج لحاسة إضافية، دعنا نسميها استحقاقاً وطنياً ليس بسياق انحياز للسلطة، بقدر ما هو انحياز لحلم الناس المتعبة والحالمة بغد أفضل، نحتاج مع كل جولة صحفية استحضار أسئلة الناس، وتأجيل ” شيطان السبق الصحفي” نحتاج لقدرة غرائزية، وانتماء ومشاركة الأحلام والتقاط الأخبار، ومعرفة التحديات، وإظهار الحقائق،كل ذلك مهم قد يؤخر الفوز بالسبق، لكنه يعيد تعريف المهنة وانتمائها قبل تفردها على حساب الضحايا، القيم الإنسانية أولاً قبل المهنية.

تبدو الرحلة شاقة ومتعبة غالباً، لكنها ضرورة وملحة، وبدل الفوز فرادى علينا المسارعة لإعلام يلبي توافقات أبناء المهنة الواحدة، وتناقضات انتماءاتهم السياسية والمجتمعية وارتباطاتهم المصلحية حتى، لا إعلام يليق بالناس أينما كانوا من دون تحشيد طاقات العاملين بالمهنة واتفاقهم على مواثيق الشرف الإعلامية والقوانين الناظمة للمهنة، لضمان عبور آمن لصحفي وجمهور ووطن .

محمد العويد -صحفي سوري

مشاركة المقال: