الجمعة, 25 أبريل 2025 07:01 PM

الصحافة بين الورق والشاشة: كيف غيّر العصر الرقمي عادات القراءة؟

الصحافة بين الورق والشاشة: كيف غيّر العصر الرقمي عادات القراءة؟

لم تعد الجريدة جزءاً من الروتين الصباحي لكثيرين، ولم تعد مطلوبة على طاولة المقهى، ولا تصل إلى عتبة المنازل كما كانت. ليس لأن الناس لم يعودوا يهتمون بالأخبار، بل لأنهم باتوا يستهلكونها بشكل ووتيرة مختلفين. قبل سنوات، كان مشهد الجريدة على طاولة الصباح أمراً مألوفاً. أمّا اليوم، فأصبح استثنائياً. فالمعلومة التي كانت تأتي مطبوعة، باتت تصل على الهاتف، والحدث الذي كنا ننتظره في الصفحة الأولى، صار إشعاراً عابراً على الشاشة.

بينما كانت قراءة الجريدة فعلاً واعياً، متأنّياً، ومرتبطاً بإيقاع يومي محدّد، باتت متابعة الأخبار اليوم تجربة رقمية آنية، متقطّعة، ومتغيّرة باستمرار. فالتطور من الصحافة التقليدية إلى الصحافة الرقمية، أسهم في تحويل الخبر من خبر منتظَر إلى خبر يلاحقه القارئ على شاشة هاتفه. وهكذا، تحولت القراءة من تجربة خطية، إلى مجموعة من التفاعلات السريعة مع العناوين، الصور، أو المقاطع القصيرة.

هل يعني هذا أنّ الناس لم يعودوا يقرؤون أم أنهم يقرؤون بطريقة مختلفة؟ أم هل القراءة نفسها تحوّلت؟ وما الذي خسرته الصحافة وما ربِحته، في انتقالها من الورق إلى الشاشة؟

تحوّل في الشكل والوظيفة

الصحافة الورقية والرقمية ليستا مجرد وسيلتين مختلفتين لنقل الخبر، بل تمثّلان إيقاعين مختلفين. في الجريدة، يُكتب الخبر بعد التحقّق، يُنشر مرة واحدة، ويُقرأ غالباً من البداية إلى النهاية. يعدّ القارئ جزءاً من علاقة واضحة: يطلب الجريدة، يتسلّمها، يقرؤها وفقاً لترتيبها، وينهيها بعد حين. هنا، الأدوار محدّدة: الصحافي يكتب، والقارئ يتلقّى، وربما يناقش أو يحتفظ بما لفت نظره.

أما في الصحافة الرقمية، فالمحتوى يتجدّد لحظة بلحظة، ويُستهلك مجزأً: عنوان، مقطع فيديو، تغريدة، تعليق. القارئ في العالم الرقمي لم يعد قارئاً بالمعنى التقليدي. هو متلقٍّ دائم، لا يطلب المادة بل تصله، لا ينهي قراءتها بل ينتقل منها إلى غيرها باستمرار. التحوّل هنا من الصحافة الورقية إلى الصحافة الرقمية لا يخصّ الوسيلة فقط، بل يطال العلاقة كلها؛ من قارئ يختار متى وكيف يقرأ، إلى متلقٍّ تُشكّل الخوارزميات تجربته، أي من فعل فردي هادئ، إلى سلسلة تفاعلات متشعّبة وسريعة.

الخبر كحدث عابر

اليوم، «يتصفّح» غالبية الناس الأخبار، ولا «يقرؤونها» بالمعنى التقليدي. في العالم الرقمي، ننتقل من منصة إلى أخرى، نقرأ جملة، نهمل أخرى، نعلّق حيناً، ونشارك أحياناً من دون قراءة كاملة. فالخبر يعيش عمراً قصيراً. يُستهلك بسرعة، يُنسى بسرعة، ويُستبدل بغيره قبل أن يترسّخ. فالمنصات الرقمية لا توفّر أرشيفاً فعلياً، بل تدفّقاً مستمراً، يتراكض فيه الجديد فوق القديم.

فعليّاً، ذلك لا يعني بالضرورة تراجعاً في الاهتمام، بل تغيّراً في العادات: من القراءة الخطّية إلى القراءة المقطّعة من جهة، ومن التركيز على المادة إلى التركيز على التجربة من جهة أخرى. ذلك لا يعني أنّ المعلومة فقدت قيمتها، بل إنّ مكانتها تغيّرت، من خبر يُحفظ ويُراجَع، إلى ومضة تُشاهد وتُمرّر. من نصّ يُقرأ بتروٍ، إلى محتوى يُسحب بالإصبع.

الجيل الجديد… قارئ رقمي

لا يقتني معظم الشباب اليوم الصحف المطبوعة، لكنهم يتابعون الأخبار. ليس عبر الجريدة الورقية، بل عبر منصات التواصل الاجتماعي على تنوعها. وفقاً لدراسة Digital News Report الصادرة عن «رويترز» عام 2023، فالجيل الجديد (خصوصاً من 18 إلى 34 سنة) يعتمد على الأخبار عبر الهاتف بنسبة تفوق سبعين في المئة. في الماضي، كان الاطلاع على الأخبار فعلاً شخصياً: تقرأ وحدك، تفسّر وحدك، وربما تتبادل الرأي في جلسة لاحقة. أما اليوم، فالمعرفة تُبنى جماعياً، على العلن، وفي اللحظة نفسها.

بمعنى آخر، لم يتخلّ الجيل الجديد عن الرغبة في الفهم، بل يبحث عنها بأساليب تتناسب مع إيقاعه، ووسائله، ولغته البصرية والصوتية. لا يقرأ فقط ما يُنشر، بل يقرأ ما يُقال عن المنشور، وما يُردّ عليه، وما يثيره من جدل. يتعامل مع المحتوى لا بوصفه نصاً ثابتاً، بل مدخلاً لنقاش مادة حية تتحوّل وتتوسّع. المعلومة لم تعد تُستهلك في عزلة، بل في تفاعل. وهذا التفاعل ـــ رغم مخاطره ـــ يفتح أفقاً جديداً: من قارئ يتلقّى، إلى مستخدم يشارك في صناعة المعنى. يرى بعضهم في ذلك تراجعاً في العمق، وآخرون تطوّراً طبيعياً في وسائط المعرفة. الحقيقة، على الأرجح، تقع في المنتصف.

الجريدة لم تختفِ… لكنها لم تعد كما كانت

دائماً ما صُوّر النقاش حول مصير الصحافة الورقية كمعركة خاسرة في وجه الزحف الرقمي. لكن الواقع أكثر تركيباً من مجرد صراع بين جريدة تُطبع وصفحة تُنشر على الإنترنت. فالحديث عن «نهاية الجريدة» مبالغ فيه بقدر الحديث عن «تفاهة الرقمي».

الناس ما زالوا يريدون أن يعرفوا. لكنّ الطريقة التي يطلبون فيها المعلومة تغيّرت. الصحافة الورقية لم تختفِ، لكنها تراجعت عن موقعها المركزي. لم تعد المصدر الأول، ولا الرفيق الصباحي، ولا المنصة التي تنتظرها القراءات السياسية والثقافية والاجتماعية. مع ذلك، ما تزال تحتفظ ببعض ميزاتها: إيقاع أبطأ، محتوى أكثر اتساقاً، ومساحة أقل للإلهاء.

في المقابل، وفّر الشكل الرقمي إمكانات هائلة: الوصول الفوري، التفاعل المباشر، والتنوّع في الشكل من النص إلى الفيديو والصوت، ومن التحليل إلى البثّ الحي.

لماذا لا يمكننا أن نتخلّى عنها؟

رغم تراجع حضورها اليومي، لا تزال الصحافة الورقية تحتفظ بقيمة لا يمكن محوها بسهولة. فهي ليست مجرد وسيط، بل تجربة قائمة بذاتها. الورق يمنح النص ثقلاً مختلفاً؛ يبطئ الإيقاع ويتيح للقارئ أن يتوقّف، يعيد القراءة، أو يقطعها ثم يعود إليها من دون أن يضيع وسط زحام التنبيهات. يحفظ الورقي المادة من النسيان السريع. بينما تختفي الأخبار الرقمية بعد ساعات من نشرها، تبقى الجريدة وثيقةً ملموسة، تُقصّ منها المقالات وتُحتفَظ بها، أو تُترك على الطاولة ليقرأها آخرون. هي ليست فقط ما يُقال، بل كيف يُحفَظ ويُتناقَل.

الصحافة الورقية لا تعني التراجع، كما إنّ الرقمية لا تعني بالضرورة التقدّم. الأهم أن تبقى المسافة قائمة بين الصحافة كمهنة، وبين المنصات كأدوات. وما نحتاجه اليوم ليس العودة الحنينية إلى الورق، ولا التسليم الكامل للرقمي، بل التمسّك بجوهر الصحافة في وجه التحوّلات المتسارعة.

ورغم أن التحول الرقمي بات واقعاً لا يمكن تجاهله، فإن الصحافة الورقية لم تنتهِ بعد. في دراسة صادرة عن «جامعة أوكسفورد» بعنوان «من الورق إلى الشاشة: عادات مطالعة الأخبار بين الأجيال» ( From print to Screen: Generational News Habits) قد يغيب الجيل الجديد عن الجريدة في تفاصيل الحياة اليومية، لكنه يعود إليها عند اللحظات الفارقة، تماماً كما يعود الإنسان إلى الورق عند الحاجة إلى الثبات، إلى الذكرى، وإلى التحليل العميق. الجريدة ليست منتجاً من الماضي، بل هي ركنٌ ثابت يعود إليه كل جيل، كلٌ بطريقته.

ختاماً، لا تكمن المشكلة في الشكل بحد ذاته، بل في التحدي الذي تفرضه المنصات الرقمية على جوهر العمل الصحافي. في العصر الورقي، كان الزمن في مصلحة الصحافي: وقت للكتابة، وقت للتحرير، وقت للنشر. أما في العصر الرقمي، فالزمن بات عدوّاً: يجب أن تُنشر المعلومة بسرعة، أن تجذب الانتباه، أن تنتشر قبل أن تُستكمَل.

وفي سياق هذا التحول، تغيّرت الصحافة، ليس بالضرورة نحو الأسوأ أو الأفضل، بل نحو ما يفرضه السياق. فالصحافة الورقية اليوم ليست بديلاً من الرقمية، ولا الأخيرة نسخة متطوّرة من الأولى. هما مساران متوازيان يعكسان تحوّلات في الثقافة الإعلامية وعلاقة الجمهور بالخبر ودور الصحافي نفسه. والسؤال لم يعد: «هل ما زالوا يقرؤون الجريدة؟»، بل «كيف نكتب، نحن الصحافيون، في زمن يقرأ فيه الناس بعيون مختلفة؟»

مشاركة المقال: