الثلاثاء, 12 أغسطس 2025 12:13 PM

المعتقد الجمعي: الروح الغائبة في صعود الأمم وانهيارها - نظرة في أسباب التقدم والتخلف

المعتقد الجمعي: الروح الغائبة في صعود الأمم وانهيارها - نظرة في أسباب التقدم والتخلف

في ختام كتابه "أصول النظام السياسي"، الذي يستعرض فيه الأنظمة السياسية من حيث بنيتها وتطورها ومآلاتها، يواجه فرانسيس فوكوياما سؤالاً يبدو بسيطاً ولكنه معقد: لماذا تنجح بعض الدول بينما تفشل أخرى، رغم تشابه الظروف الاقتصادية والجغرافية وحتى التركيبة السكانية؟ لقد قارن بين دول تتقاسم نفس الإرث الاستعماري، وتتشابه في الدخل والموارد والتهديدات، لكنها تسلك دروباً مختلفة تماماً، ولم يتمكن، رغم أدواته الأكاديمية، من تقديم إجابة قاطعة.

قد يكون ما فات فوكوياما، أو ما تغاضى عنه، هو أن الجواب لا يكمن دائماً في نص القانون، ولا في قوة المؤسسات، ولا في شكل النظام السياسي. الجواب الأعمق والأكثر صعوبة يكمن في "المعتقد الجمعي". فالدولة ليست مجرد كيان مادي، بل هي روح تتشكل بما يؤمن به الناس، لا بما هو مدون في الدساتير. فالنصوص تبقى حبراً على ورق حتى تتجسد في الوعي والسلوك ووجدان المجتمع.

المعتقد الجمعي هو الرابط الذي ينظم علاقة الفرد بالمجتمع والدولة. إنه ما يدفع شخصاً ما إلى رمي ورقة في سلة المهملات دون وجود رقيب، وما يدفع آخر إلى اعتبار مخالفة القانون نوعاً من الذكاء والمراوغة. إنه ما يجعل الأول يرى في الدولة امتداداً له، بينما يراها الثاني خصماً أو كياناً غريباً لا يعنيه.

من أبرز تجليات هذا المعتقد ما يتجسد في مفاهيم مثل العرف والعادة. فهما ليسا مجرد سلوكين اجتماعيين، بل هما الجذور العميقة للمعتقدات. فما اعتاده الناس، حتى لو كان مخالفاً للدستور والقانون الطبيعي، يصبح هو الحقيقة بالنسبة لهم، وما ألفوه يصبح قانونهم الأسبق والأقوى. العرف الفاسد لا يواجه الدولة فحسب، بل يهزمها من الداخل لأنه يسكن نفوس رعاياها.

خذ مثلاً سلوك "الرشوة". حين يُعتقد أنها ليست عيباً، بل حيلة ذكية لتيسير الأمور، تصبح جزءاً من النسيج الاجتماعي. يقول أحدهم دون خجل "دفعت كم ليرة ومشيت الأمور" وكأنها بطولة تروى. أما حين يُنظر إلى الرشوة كفعل مشين، يتوارى صاحبها عنها، ويشعر بالخجل لا بالفخر. الرادع الحقيقي إذاً ليس القانون، بل ما يعتقده الناس عن الرشوة.

الأمر ذاته ينطبق على ما يعرف بالمحسوبية في مجتمعاتنا (منها سوريا). من الطبيعي أن يقوم المسؤول بجلب أقاربه وأصدقائه إلى مواقع الدولة الحساسة، لا باعتبار ذلك خيانة للأمانة، بل كواجب اجتماعي مبرر بمقولة "الأقربون أولى بالمعروف". بينما يذكر الله تعالى في محكم تنزيله {ولو كان ذا قربى}. أي إن المعتقد الجمعي يطغى حتى على المعتقد الديني. والمفارقة الكبرى تتجلى في أن معظم من ينتقد هذا السلوك، سيقوم بالمثل لو أتيحت له الفرصة، لأن المعتقد لم يتغير.

لكن، لو أدرك الناس أن وجود الشخص الأكفأ في المكان المناسب هو في مصلحتهم المباشرة، وأن ضعف الأداء في مؤسسة ما سينعكس على جودة تعليم أبنائهم أو توافر الخدمات الصحية أو حتى سلامة الطرقات التي يسيرون عليها، لقاتلوا من أجل ذلك الكفء، لا من أجل قريبهم غير المؤهل. هنا تكمن الفجوة بين الدول المتقدمة وتلك التي تراوح مكانها.... الفجوة ليست في الثروات ولا في الأعداء ولا حتى في الماضي، بل في عمق هذا الإدراك الجمعي الذي يفضل المصلحة العامة على مصلحة العشيرة أو الطائفة أو العائلة.

وفي تلك الدول، لا يحتفى بالتهرب الضريبي كفعل ذكي، بل تدفع من منطلق المنفعة والرادع الأخلاقي، لأن المواطن يؤمن بأن الضريبة التي يدفعها تعود إليه في البنى التحتية والمدارس والمستشفيات.

نعم... القوانين ضرورية، وهي قادرة على كبح الانحراف إلى حين. لكن حين يغيب الرادع الأخلاقي، يصبح القانون هشاً، وتفرغ العقوبة من معناها. القانون بلا معتقد جمعي مساند لا يبني عليه وطن، ولا تصان به دولة.

من هنا، فإن بناء الدولة لا يبدأ من المؤسسات فقط، بل من المعتقدات. من إدراك الناس أن ما يفعلونه في الخفاء، هو ما يصنع وجه دولتهم في العلن. وهذا التغيير الجذري، لا يحدث بالوعظ ولا بالقمع، بل بخطة تربوية وإعلامية وتشريعية متكاملة. تبدأ من المدرسة، تمر بالإعلام، وتُترجم في قوانين رادعة واضحة، لا تترك للخرق ثغرة ولا للمحسوبية منفذاً. لكن حتى هذه الأدوات، تبقى مجرد وسائل إن لم تتحول إلى مطلب جماهيري.

فالتغيير يبدأ من القاعدة، من الحاجة المجتمعية له، و لكن نجاحه مرهون بقدرة النخب على إقناع الناس أن بناء الدولة الحديثة لا يمكن أن يتم دون هدم المعتقدات المعوقة، وأن لا نهوض ممكناً ما دام العقل الجمعي مسكوناً بعادات تمنع الكفاءة وتبرر الانتهاك.

وهنا.... يكمن جوهر ما غاب عن فوكوياما، إذ بحث عن الجواب في النصوص والمؤسسات، بينما يكمن جوهر المسألة في المعتقد الجمعي الذي يصوغ سلوك الدولة والمجتمع.

"الثورة الحقيقية لا تتوج بسقوط الطغاة....بل حين يولد من ركامهم مجتمع يؤمن أن المصلحة العامة هي العقيدة العليا...وأن بناء الدولة يبدأ من ضمير الجماعة ومن اليقين المتجذر في أعماقهم". محمود صالح الناصيف

مشاركة المقال: