الأربعاء, 18 يونيو 2025 09:05 PM

الملل الصامت ينهش طموح الشباب السوري: هل فقد جيل كامل شغفه بالعمل؟

الملل الصامت ينهش طموح الشباب السوري: هل فقد جيل كامل شغفه بالعمل؟

في زاوية غرفتها المخصصة للعمل، تجلس “جيهان” شابة عشرينية من مدينة “درعا”، محدقة في شاشة لابتوبها بدون هدف، لا جديد يذكر، تدوينة جديدة تحتاج إعادة صياغتها لنشرها لاحقاً، لا ضوضاء بجانبها ولا صوت يصرخ من الخارج.

«أحياناً أشعر أني أؤدي وظيفة ثانوية لا أحد يحتاج لها، ولا حتى أنا ربما لولا حاجتي للراتب لكنت توقفت عن العمل»، تقول الشابة لـ”سناك سوري”، وتضيف أنها تمارس عملها بكتابة المحتوى منذ عدة سنوات والآن لم تعد تمارسه بذات الشغف، وباتت تمل بمجرد التفكير ببدء العمل.

حالة “جيهان” ليست فردية، وربما تكون ظاهرة آخذة بالاتساع بين الشباب السوري، الذين يعمل قسم منهم خارج اختصاصه، وغالبيتهم يحصلون على رواتب غير كافية ويمارسون أعمالاً تكون الكلمة الأولى والأخيرة فيها للمدير، ما يجعلهم يشعرون بالإحباط والملل.

الملل: مرض لا يتكلم عنه أحد

يقول “برايان لوفكين” الصحفي المتخصص في شؤون العمل والحياة المهنية لدى , إن الملل من العمل يحدث عندما نشعر بأن عملنا بلا معنى، وتبدو فيه مهامنا بلا قيمة، ويضيف أن هذا النوع من الاستنزاف النفسي أصبح مألوفاً في بيئات العمل المغلقة، حيث يُطلب من الموظف الحضور والانضباط الشكلي، دون أن يكون له دور حقيقي، أو فرصة للتطوير، أو حتى أمل في الترقية.

في سوريا، قد يتفاقم هذا الشعور بسبب غياب العدالة الوظيفية، وركود المؤسسات، وانعدام الحوافز، كذلك التمييز القائم على النوع الاجتماعي والتحيز في بيئات العمل، ما يجعل كثر وكثيرات يعتبرون الوظيفة مجرد مكان لتوقيع الحضور والانصراف، وربما شرب القهوة لا أكثر، أو لممارسة أعمال روتينية بسقف محدد مسبقاً دون أي فرصة للتطور والإبداع.

ورغم أن الشعور بالملل في العمل أمر طبيعي قد يمرّ به أي موظف من حين لآخر، إلا أن استمراره بشكل مزمن يعد مؤشراً خطيراً يتطلب الانتباه، بحسب ما تؤكده لوتا هارجو، الأستاذة المساعدة في السلوك التنظيمي بكلية “EM Lyon” للأعمال في فرنسا.

تقول هارجو: «الملل المزمن لا يؤثر فقط على الأداء، بل يترك آثارا صحية ونفسية طويلة الأمد».

في دراسة أجرتها عام 2014 على أكثر من 11 ألف موظف في 87 مؤسسة فنلندية، وجدت هارجو أن الملل الوظيفي المزمن يزيد من احتمالية دوران الموظفين، ونواياهم في التقاعد المبكر، وسوء تقييمهم لصحتهم، وظهور أعراض توتر دائمة.

ومع ذلك، فإن اكتشاف هذا النوع من “الاحتراق البارد” غالباً ما يتأخر، كما تشير هارجو، لأن الموظف لا ينتبه لوجود المشكلة إلا بعد أن تستفحل، تضيف: «الملل يختلف عن الإرهاق.. هو ليس انهياراً درامياً، بل غياب هادئ للروح».

وعلى عكس الإرهاق الذي يُكافأ أحياناً في ثقافة العمل بوصفه علامة اجتهاد، يُنظر إلى الملل داخل المؤسسات نظرة شك واتهام بالكسل، ما يجعل الموظفين يترددون في الإبلاغ عنه أو حتى الاعتراف به، وتوضح هارجو أن كثير من المؤسسات لا تتقبل مظاهر فقدان الدافع، لأنها «تعكس قلة اهتمام»، وهو ما يُعد من المحظورات غير المعلنة في ثقافة العمل.

ورغم أن البعض يحاول كسر الروتين بتولّي مهام جانبية أكثر متعة، أو محاولة إعادة المعنى للعمل، إلا أن دراسة أجرتها هارجو عام 2016 أظهرت أن الأشخاص الذين يعانون من الملل المزمن أقل ميلاً للقيام بأنشطة بنّاءة داخل العمل، وأقل استعداداً للبحث عن تحديات جديدة، وغالباً ما يلجأ هؤلاء إلى ما تسميه “آليات التكيّف”، كالتسوق الإلكتروني أو الدردشة الطويلة أو تصفح الإنترنت، ليس كنوع من الكسل، بل كحيلة لا شعورية للهروب من الفراغ الذهني.

تشير هارجو إلى أهمية الجوانب غير الوظيفية في بيئة العمل مثل العلاقات الإنسانية، وشعور الموظف بأنه مقدّر ومرئي، مشددة على أن هذه الأمور قادرة على تعويض طبيعة العمل الرتيبة، وتختصر هارجو الفكرة بجملة واضحة: «نحن بحاجة إلى إعادة تعريف رفاهية الموظف، لا فقط من زاوية التوتر أو ضغط العمل، بل من زاوية غياب المعنى أيضاً».

الملل ليس عيباً بل إشارة يجب الإصغاء لها

الملل يمكن أن يكون علامة على حاجة عميقة للتغيير، لا دليل على الفشل، ويؤكد العديد من خبراء علم النفس أن الحل لا يكون دائماً بترك الوظيفة، بل أحياناً بإعادة صياغة العلاقة معها.

لكن الأهم، في السياق السوري، هو اعتراف المجتمع والإدارة بوجود الملل كظاهرة صحية تحتاج معالجة لا قمعاً، فالشاب الذي يملّ ليس متمردا، ولا قليل الوفاء، هو فقط يبحث عن دور، عن أثر، عن مكان يشعر فيه أنه موجود كإنسان.

مشاركة المقال: