بعد غياب دام نحو ربع قرن، استأنفت وجوه من تيار "ربيع دمشق" نشاطها السياسي في سوريا، وذلك في منزل رياض سيف (78 عامًا)، أحد مؤسسيه البارزين وعضو مجلس الشعب السابق، الذي اشتهر بمناهضته للاستبداد في عهد الأسد الأب، ودفع ثمن مواقفه بالسجن في عهد الأسد الابن عام 2001.
شهد منزل رياض سيف في ضاحية قدسيا بريف دمشق انعقاد منتدى "الحوار السوري الديمقراطي" في 23 نيسان، بمشاركة شخصيات من "ربيع دمشق". تحدث في المنتدى رضوان زيادة، الباحث في "المركز العربي بواشنطن"، والحقوقية السورية جمانة سيف، والباحثة في قضايا المرأة خولة دنيا، مُسلطين الضوء على أهمية العدالة الانتقالية والسلم الأهلي في المرحلة الراهنة.
استفاد أعضاء تيار "ربيع دمشق" من التغييرات السياسية التي أعقبت سقوط نظام الأسد ووصول قادة فصائل "ردع العدوان" إلى السلطة في دمشق، بقيادة الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع. وحضر المنتدى شخصيات سياسية وناشطون سوريون من الداخل والخارج، من بينهم الممثل السوري فارس الحلو، والأستاذة في المعهد العالي للفنون المسرحية منور عقاد، ورئيس الجالية السورية في مصر وتركيا سابقًا نزار خراط، والصحفي كمال شيخو مراسل جريدة "الشرق الأوسط" في سوريا.
عودة بعد 25 عامًا
المعارض السوري رضوان زيادة، تساءل خلال المنتدى عن مصير تشكيل هيئة العدالة الانتقالية المنصوص عليها في "المادة 49" من الإعلان الدستوري، ودعا إلى تشاور وطني واسع النطاق عند تشكيلها، مؤكدًا على ضرورة دعم المجتمع المدني في إطلاق مبادرات تدفع باتجاه العدالة الانتقالية.
وفي حديثه لـ "عنب بلدي"، أعرب زيادة عن فخره باستئناف منتدى "الحوار الوطني" لنشاطه بعد غياب دام أكثر من 25 عامًا، مشيرًا إلى أن آخر ندواته كانت في شباط 2001، والتي أعقبها إغلاق المنتدى واعتقال بعض المسؤولين عنه. وأضاف: "نحن ذاتنا نعود اليوم لاستئناف المنتدى دون أي سقف للنقاش، ودون خطوط حمراء، وهذا شيء يدعو للفخر في سوريا المستقبل التي ستكون أفضل وأجمل".
وأكد زيادة على أهمية هذا النقاش في تحديد مسار للعدالة الانتقالية في سوريا، يهدف إلى منع عمليات الانتقام وتحقيق الإنصاف للضحايا بعد 14 عامًا من "إجرام الأسد" وتداعياته على المجتمع السوري. وأشار إلى استمرار فعاليات المنتدى بمحاضرات قادمة، بما في ذلك محاضرة في كلية الفنون الجميلة بدمشق حول مقارنة تجربة العدالة الانتقالية في سوريا مع تجارب دول أخرى.

المجتمع المدني غائب
من جهتها، أعربت رئيسة منتدى "الحوار السوري الديمقراطي"، جمانة سيف، عن قلقها إزاء عدم اتخاذ أي خطوات ملموسة نحو العدالة الانتقالية، معتبرةً أن "الصورة تبدو ضبابية بالنسبة للجميع، وهذا الوضع يزعزع الثقة بمؤسسات الدولة، وبالجدية التي ستؤخذ بها العدالة الانتقالية".
وتحدثت سيف عن عملية توثيق انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها النظام السوري، وعن دور منظمات المجتمع المدني خارج سوريا في هذا التوثيق، مؤكدةً أن حجم التوثيقات الرسمية لانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا كبير جدًا، "لدرجة أنه لا يوجد صراع في العالم يملك هذا الكم من الوثائق". وأشارت إلى توثيق أكثر من مليون ومئتي ألف عملية اعتقال، بما في ذلك اعتقال أطفال ونساء، بالإضافة إلى استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب ممنهج.
وأعربت جمانة سيف عن اعتقادها بأن العدد الحقيقي لضحايا العنف الجنسي يفوق بكثير ما ذكرته التقارير الدولية. وأشارت إلى أن الجهود المبذولة لتوثيق هذه الجرائم والتقدم بطلب لإحالتها إلى المحكمة الجنائية الدولية قد أُحبطت بالفيتو الروسي- الصيني، إلا أن هذه التوثيقات ستكون متاحة للحكومة السورية حال قررت البدء في مسار العدالة الانتقالية.
وأضافت: "نحن كمجتمع مدني نريد إطلاق مسار العدالة الانتقالية في سوريا عبر خطة وطنية شاملة، وإشراك حقيقي للمجتمع المدني باعتباره مغيبًا عن المشهد الحالي".

وفي 18 آذار الماضي، أصدرت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" تقريرًا يوثق أعداد القتلى والمعتقلين في سوريا، بمناسبة الذكرى الـ 14 لانطلاق الثورة السورية. ووثقت الشبكة مقتل ما لا يقل عن 234 ألف شخص، بينهم أكثر من 200 ألف مدني قُتلوا على يد قوات نظام الأسد المخلوع منذ آذار 2011. كما وثقت مقتل 30 ألف طفل و16 ألف سيدة، بالإضافة إلى مقتل 921 من الطواقم الطبية و724 فردًا من الطواقم الإعلامية.
السلم الأهلي مهدد
خولة دنيا، المتحدثة باسم "منتدى الحوار الوطني الديمقراطي"، أكدت على أهمية التطرق إلى "مجازر الساحل" والانتهاكات التي شهدتها حمص وحماة وريفها عند الحديث عن السلم الأهلي. وأشارت إلى تهجير سكان 20 قرية في ريف حماة، محذرةً من العودة إلى وضع مشابه لما كان عليه في 2012 و2013 من حيث النزوح واللجوء.
وأضافت: "خلال السنوات الماضية نشأت مظلومية محقة للشعب السوري بسبب ما تعرض له السوريون من قتل وتشريد وتعذيب ومن غياب أي سلطات لها طابع قانوني وإنما العسكرة بشكل أساسي. هذا ما سيؤدي إلى الدخول في دوامة مظلومية جديدة".
واعتبرت دنيا أن ردود الفعل الشعبية المرتبطة بالاحتقان، والمؤيدة بقوة عسكرية وعقائدية، وعدم القدرة على ضبطها، ستعيق تحقيق السلم الأهلي. وشددت على دور الدولة في تخفيف الاحتقان والعمل على معالجة حالة الانعزال والانغلاق التي عانى منها السوريون.
وفي 6 آذار، هاجمت مجموعات من فلول النظام السابق نقاطًا وحواجز لـ "إدارة الأمن العام" وقطعًا عسكرية تابعة لوزارة الدفاع، وطالت الهجمات المستشفيات وسيارات المدنيين. ووثقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" مقتل 803 أشخاص في الفترة ما بين 6 و10 آذار في محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة، من بينهم 172 عنصرًا من القوات الأمنية والشرطية والعسكرية و211 مدنيًا.
ما "ربيع دمشق"
ظهر "ربيع دمشق" في عامي 2000 و2001، وشهدت سوريا خلال هذا الحراك المدني، الذي استمر سبعة أشهر فقط، ازدهارًا في التعبير والتجمع والعمل السياسي الغائب منذ ستينيات القرن الماضي. بدأت هذه الفترة بعد خطاب القسم الذي ألقاه بشار الأسد عند استلامه الحكم في 27 حزيران 2000.
وفي 27 أيلول من العام نفسه، قدم عدد من المثقفين والناشطين السوريين "بيان الـ 99" الذي تضمن الإصلاحات المطلوبة. تبع هذا البيان "بيان الألف" الذي وقعه عدد أكبر من المعارضين في 10 كانون الثاني 2001. وتأسست في تلك الفترة نحو 170 منتدى ثقافيًا وفكريًا وسياسيًا، كان أبرزها منتدى "جمال الأتاسي" الذي أنشأته سهير الأتاسي. ومن داخل هذه الصالونات انطلقت المطالب بالإصلاح السياسي والقضائي.
إلا أن السلطات السورية لم تتقبل هذه الأفكار، وعمدت إلى إغلاق جميع المنتديات واعتقال رموز "ربيع دمشق"، من بينهم رياض الترك، ورياض سيف، ومأمون الحمصي، وعارف دليلة، وحبيب عيسى، وفواز تلُّو، ووليد البني.