في 22 حزيران، هزّ تفجير كنيسة "مار إلياس" للروم الأرثوذكس في حي الدويلعة بدمشق، أثناء قداس مكتظ بالمصلين. نفذ الهجوم شخصان، فجر أحدهما نفسه، بينما تم القبض على الآخر بعد فراره. تبنت جماعة تدعى "سرايا أنصار السنة" الهجوم، رغم اتهام السلطات لتنظيم "داعش".
تعيد هذه العملية طرح سؤال قديم في علم النفس الإكلينيكي والاجتماعي: من هو الإرهابي؟ هل هو مريض نفسي يحتاج إلى احتواء وعلاج؟ أم ضحية لأجهزة استخبارات جندته؟ أم شخص سليم العقل ارتكب فعله بإرادة كاملة؟
إن تبسيط الأمر بافتراض المرض النفسي قد يبدو مريحًا، إذ يسمح لنا بإبعاد القسوة عن أنفسنا ونسبها إلى "الآخر المجنون"، كوصفه بالسيكوباتي أو الفصامي. لكن الدراسات النفسية منذ السبعينيات تؤكد أن الإرهابي ليس مريضًا في الغالب، بل يحتاج إلى تحليل سرديته وموقعه داخل الجماعة التي يمثلها.
الباحث في علم النفس السياسي جون هورغن، سخر في مراجعة تحليلية لأبحاث شملت معتقلين سابقين، من فكرة وجود "سمات شخصية إرهابية". فقد أظهرت الدراسات الميدانية والإكلينيكية على مدى ثلاثة عقود أنه لا توجد سمات نفسية شاذة أو اضطرابات محددة أو ميل وراثي للعنف لدى مرتكبي هذه الأفعال. بل يوجد سياق منتج وبيئة تبرر وتحول الفعل إلى بطولة.
في المجتمعات السليمة، يُدار الاختلاف بالحوار أو التجاهل أو المنافسة. لكن في سوريا، خلال العقدين الأخيرين، اتخذ الاختلاف منحى وجوديًا، وأصبح الآخر المختلف خطرًا على البقاء. لذا، يُقرأ فعل التفجير كرسالة: "وجودكم بحد ذاته تهديد".
منذ بداية الثورة، استهدف العنف كيان الآخر، يُقتل الإنسان بسبب انتمائه إلى بيئة أو حي أو طائفة أو لهجة. تتحول القنبلة إلى وسيلة لحسم نقاش لم يبدأ، ويصبح العنف وسيلة لترتيب المجال العام وفق منطق: من يستحق الحياة؟ من يُحذف؟ في هذا المناخ، يصبح الاختلاف جريمة قابلة للعقاب الفوري، ويصبح قتل المدنيين مبررًا في وعي جماعات لم تعد ترى الآخر إلا كعلامة على خطر وشيك.
لم يكن قتل الآخر المختلف جديدًا في سوريا الأسد، لكنه كان يتم في الخفاء. مع انطلاق الثورة، بدأ القتل يأخذ طابعًا مختلفًا: يُصوّر، يُسرّب، ويُقدّم بلهجة تكشف انتماء الجلاد والضحية، لتغدو الطائفية مشهدًا معلنًا. لكن المأساة كانت في التلقي، فقد ابتلع المجتمع الطُعم، وبدأت الجماعات تبرر القتل على الهوية كرد فعل أو كعدالة بديلة.
بدلًا من صون إنسانية الضحية، دخل المجتمع في لعبة تصنيفها: من يستحق الشفقة؟ من هو ضحية حقيقية؟ ومن هو خصم طائفي لا يستحق الحياة؟ حين ندرك أن من فجر نفسه داخل كنيسة لم يكن مريضًا، بل تربى داخل منظومة أعادت تعريف العدو والضحية والبطولة، ندرك أن المشكلة في المجتمع. حينها، يصبح الإرهاب ابنًا من أبنائنا، من قال له إن المختلف خطر، وأن القتل رد؟ من صمت؟ من برر؟ من تجاهل؟
في السياق السوري، لا يمكن ادعاء البراءة. كانت هناك بيئات تحتفي بالقاتل وتمجده، وأخرى تغض النظر أو تبرر بدافع الانتقام. رغم معرفة المجتمع بأسماء مجرمين ومسؤولين عن القتل، لم نشهد أي شكل من أشكال العقاب الاجتماعي، بل تحول القاتل إلى رمز محلي في بعض الحالات.
هكذا اكتملت دائرة التواطؤ: من عنف الدولة، إلى رد الفعل المسلح، إلى جمهور يصفق أو يصمت أو يُنقي القاتل من خطاياه. غياب العقاب المجتمعي كان ضوءًا أخضر لكل قاتل قادم. وحين يغيب العقاب، يموت الضمير العام، وتُدفن الضحية مرتين.
ربما يميز بعض التيارات الإسلامية تمجيد الشهادة، لكن فعل الموت باسم قضية طال جماعات أخرى، وصفّق له جمهور أوسع. لا يمكننا مواصلة إسقاط كل الصفات على "الآخر الشرير" لنرتاح. المجتمع شارك بصمت أو بتبرير أو بحماسة. ربما النظام هو المسؤول الأول، لكننا أطعناه أو تماهينا مع عنفه. وإذا أردنا طي صفحة الماضي، علينا أن نجرؤ على مواجهته داخل أنفسنا، وأن نعيد تشكيل سلّم القيم التي فقدناها خلال سنوات الدم.