الخميس, 18 سبتمبر 2025 12:34 AM

"ثلاثة أصوات من البصرة": ذياب الطائي يستكشف النفس البشرية عبر نوافذ البوح والأمل

"ثلاثة أصوات من البصرة": ذياب الطائي يستكشف النفس البشرية عبر نوافذ البوح والأمل

في عوالم ذياب الطائي الروائية، يبرز تنوع فريد في الشخصيات والبنية والموضوعات. يمثل المكان عنصراً أساسياً، خاصة البصرة، ببُعدها السيميولوجي ودلالاتها المتنوعة، حيث تتنقل الشخصيات بين فضاءات روائية مختلفة.

على غرار الروائي الأمريكي وليم فوكنر الذي ابتكر جغرافية متخيلة لرواياته، يضع ذياب الطائي جغرافية واقعية لأعماله، مثل البصرة وشط العرب وزحلة اللبنانية، لإضفاء مصداقية على الأحداث، حتى وإن كانت متخيلة. يهدف هذا الاختيار إلى إيهام القارئ بواقعية الرواية وانتمائها إلى التيار الواقعي.

تغوص الرواية في أعماق النفس البشرية، مستخدمة تقنية سردية حداثوية وإطاراً مكانياً قوياً يشمل البصرة وشط العرب وزحلة، لبناء معمار روائي متكامل. تعتمد الرواية على ثلاثة أصوات تستخدم ضمير المتكلم، مما يضفي عليها جاذبية خاصة.

يقول صوت الابن: "لن أعيش حتى نهاية الأسبوع.! قال أبي ذلك بتقريرية كعادته وهو يتخذ قراراته بصوت عميق وببطء شديد، حتى أنه كان ينطق الحروف بعفوية تدفع الى تصديقه، كانت الحروف كأنها مشدودة الى خيط خفي تنسحب فرادى ولكن من دون أن تتعرض الكلمات للتجزئة".

اعتمد الطائي التقطيع الحداثوي في بناء الرواية، مقسماً إياها إلى فصول بعناوين مستوحاة من متن الرواية نفسه: الفصل الأول (صوت الابن)، الفصل الثاني (صوت الأم)، والفصل الثالث (صوت الأب). نجح الروائي في خلق فضاء روائي غني من خلال هذه الأصوات الثلاثة، حيث يمثل كل صوت منظوراً مختلفاً للواقع وذاكرة خاصة ورؤية فريدة للحياة. تخلق هذه التقنية تعددية في الرؤية، مانحة القارئ صورة شاملة للأحداث والعلاقات داخل الأسرة، وتعكس كيف أن الحقيقة واحدة ولكن إدراكها متعدد الوجوه.

من خلال هذه الأصوات، يتم بناء الشخصيات الرئيسية بعمق سيكولوجي، حيث نتعرف على مخاوف الأب وأحلام الأم وصراعات الابن. يكشف الحوار الداخلي لكل صوت عن الهوة واللقاء بين الشخصيات.

وظّف ذياب الطائي ببراعة تقنية الفلاش باك، التي تماهت مع المكان كحالة ذات بعد سيكولوجي. فالبصرة لم تكن مجرد مكان جغرافي، بل رمزاً يحمل دلالات ورموزاً متعددة. تمثل المدينة الجذور والهوية، والحديث عنها هو حديث الذكريات بجمالها ومعاناتها. يدفع هذا المكان الحبكة إلى الأمام ويؤثر في قرارات الشخصيات. في حين أن صورة الأم في الرواية هي صورة المرأة في المجتمع العربي، وكيف تتعامل مع أدوارها المتعددة؟ والتضحيات التي تقدمها، وكيف يراها الابن (كملاذ آمن) وكيف يراها الأب (كشريكة حياة).

تتميز لغة ذياب الطائي بالسلاسة والجزالة والعذوبة والشعرية الحداثوية، مما يضيف جمالاً إلى رواياته. يقول وعبر صوت الابن: ” كانت أمي واقفة عند الباب تحيطها ظلال مزدوجة من بقايا نهار غائم، ترتفع به رطوبة ملحّية والنور الباهت المتردد المندفع عبر الشباك الذي أزيحت ستائره عن زجاج لامع تم تنظيفه حديثاً، كان في عينيها دهشة فاجعة كطفل يتلقى ضربة من شخص يحبه…،”

في جوهرها، تعد "ثلاثة أصوات من البصرة" استعادة للذاكرة الفردية والجماعية، وتحليلاً عميقاً لديناميكيات العلاقات داخل الأسرة العربية. إنها ليست مجرد قصة عائلة، بل سيرة لأمكنة وأرواح جماعية. يكمن نجاح الرواية في قدرتها على تحويل المكان من موقع جغرافي إلى كائن حي ينبض بالذكريات والألم والأمل. من خلال الأصوات الثلاثة المتعانقة، تقدم الرواية رؤية عميقة ومؤثرة للوجود الإنساني.

صدرت هذه الرواية عن دار السرد في بغداد 2025، وتقع في 88 صفحة من القطع الكبير.

اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية

مشاركة المقال: