تشهد مناطق مختلفة من سوريا حالة من الغضب الشعبي المتصاعد، لاسيما في أوساط ذوي الضحايا والمفقودين من أبناء الثورة، نتيجة ما يرونه "تماهيًا" من الحكومة الجديدة مع رموز النظام السابق والمتورطين في جرائم حرب، وسط عمليات إفراج متكررة عنهم دون محاسبة أو محاكمة.
السلطات السورية، التي أعلنت اتباع سياسة "السلم الأهلي" بعد أحداث العنف الأخيرة في الساحل السوري خلال آذار/مارس الماضي، تواجه اتهامات باستفزاز الأهالي من خلال إعادة تسويق شخصيات أمنية وعسكرية شاركت في قمع الثورة، وإطلاق سراح ضباط وعناصر سابقين تورطوا بارتكاب انتهاكات جسيمة، ما أثار استنكاراً واسعاً بين أهالي المعتقلين والمفقودين.
ورغم استمرار اختفاء عشرات الآلاف من المعتقلين في سجون النظام السابق، وانعدام المعلومات عن مصيرهم، تفاقمت المطالبات بتطبيق العدالة الانتقالية باعتبارها خطوة أساسية نحو الإنصاف والمصالحة. إلا أن الإفراجات المتواصلة عن شخصيات أمنية، إلى جانب غياب ملاحقة من يُعرفون بالشبيحة الذين عادوا إلى مناطقهم وبدؤوا بمضايقة السكان، فاقمت من مشاعر الغضب الشعبي.
وما زاد من حدة التوتر، بروز شخصيات من عهد النظام السابق – مثل فادي صقر وآخرين – في مشهد المصالحة الوطنية، إلى جانب حماية أمنية لهم، وعودة رجال أعمال ووجوه إعلامية وفنية داعمة للنظام السابق دون أن تطالهم أي محاسبة.
هذا التوجه، بحسب فعاليات شعبية، يشكّل خرقًا صريحًا لوعود التغيير والإصلاح، ويعزز شعوراً عارماً بالظلم لدى شريحة واسعة من السوريين ممن فقدوا أبناءهم أو تعرضوا لانتهاكات خلال سنوات الحرب.
وتشير تقارير محلية إلى تزايد حالات الانتقام الفردي التي تنفذها خلايا مجهولة في مناطق كحلب وحمص والساحل وحماة، كرد فعل على غياب العدالة وتفشي الإفلات من العقاب، الأمر الذي يهدد بانتشار الفوضى وتقويض سلطة الدولة.
من جهتها، حذّرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" من أن الصلاحيات المحدودة الممنوحة لـ"الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" التي أُعلن عن تشكيلها مؤخراً، تهدد بتقويض فعاليتها وتُقصي شريحة كبيرة من الضحايا. وأكدت المنظمة أن نجاح هذه الهيئة مرهون بمشاركة حقيقية للناجين والمجتمعات المتضررة، وبشفافية تضمن كشف الحقائق وتحقيق المساءلة.
وفي بيان لها، رأت المنظمة أن اقتصار اختصاص الهيئة على الانتهاكات التي ارتكبها النظام السابق دون التطرق لانتهاكات الفصائل الأخرى، وعدم توضيح آليات إشراك الضحايا، يشكّل نقطة ضعف جوهرية قد تعيق أي تقدم حقيقي في مسار العدالة الانتقالية.
بدورها، أصدرت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" تقريراً دعت فيه إلى تأسيس الهيئة بموجب قانون صادر عن السلطة التشريعية، وليس عبر مرسوم تنفيذي، محذّرة من أن عدم الاستقلال القانوني للهيئة يهدد فعاليتها، كما استشهدت بتجارب دولية مماثلة في أوغندا والمغرب وبيرو، أظهرت أن الهيئات المنشأة بقرارات تنفيذية غالباً ما تُضعف بفعل التدخلات السياسية وتفتقر إلى الشرعية المجتمعية.
وكان الرئيس السوري أحمد الشرع قد أصدر في 17 أيار/مايو 2025 مرسومين رئاسيين بتشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" و"الهيئة الوطنية للمفقودين"، بهدف التعامل مع إرث الانتهاكات التي وقعت خلال حكم النظام السابق، والكشف عن مصير أكثر من 100 ألف مفقود. وقد لاقت هذه الخطوة ترحيباً دولياً من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، بوصفها مؤشراً على رغبة الحكومة في سلوك مسار حقوقي حقيقي.
رغم هذا الترحيب، يرى مراقبون محليون أن الواقع الميداني لا يعكس نية جادة في تحقيق العدالة، حيث لا تزال مشاعر الغضب الشعبي تتصاعد، وسط تحذيرات من انفجار اجتماعي وشيك إذا استمر تجاهل مطالب الضحايا وذويهم. ويؤكد ناشطون وأهالٍ أن تغييب المحاسبة عن مرحلة ما بعد الحرب يُنذر بتكرار ممارسات الماضي، ويقوّض فرص المصالحة الفعلية، مشددين على أن "السلم الأهلي" لا يمكن أن يقوم على تجاوز العدالة، بل على قراءتها ومساءلة من ارتكب الجرائم بحق الشعب السوري.