الأربعاء, 4 يونيو 2025 10:29 PM

من زنازين التعذيب إلى ساحات التصوير: كيف يتحول إرث السجون السورية إلى معركة ضد الذاكرة؟

من زنازين التعذيب إلى ساحات التصوير: كيف يتحول إرث السجون السورية إلى معركة ضد الذاكرة؟

إرث السجون السورية: من قمع الذاكرة إلى استثمار الرعب

تحمل سوريا إرثاً ثقيلاً من العنف المؤسسي، تجسد في الفروع الأمنية والسجون التي كانت مسرحاً لجرائم مروعة. بعد سقوط نظام الأسد، لم تتحرر هذه المساحات من ماضيها، بل دخلت في دورة جديدة من إعادة التوظيف، ما يثير تساؤلات حول الذاكرة والعدالة والإنسانية.

تحولت هذه المساحات إلى مواقع تصوير وصناعة محتوى، وأحياناً إلى مشاريع تقودها فرق تطوعية، وساحة لإطلاق فعاليات احتفالية. إلى جانب ذلك، ظهرت تصريحات حول إمكانية إعادة استخدامها كمراكز خدمية حكومية، في طرح لإعادة إنتاج المكان خارج سياقه الأصلي.

إن أي محاولة لتغيير دلالة هذه الفضاءات دون مساءلة الماضي تثير إشكاليات تتجاوز البعد المعماري أو الوظيفي. تحويل السجون إلى مشاهد بصرية "محايدة" أو منشآت خدمية دون معالجة إرثها، يمثل إعادة هندسة للوعي تعيد إنتاج الماضي في الحاضر، ولكن بوجه مُجمّل.

ذاكرة هذه الأماكن لا تخص الناجين وحدهم، بل تمتد لتشمل المجتمع السوري ككل، باعتبارها جزءاً من الذاكرة الجمعية التي توثق تاريخ العنف والانتهاكات. محو هذه الأماكن أو إعادة توظيفها دون معالجة إرثها يهدد بطمس الحقيقة وحرمان الضحايا من العدالة.

السجن كخلفية بصرية: استثمار الرعب

بدأنا نشهد توافد صناع المحتوى إلى هذه السجون المتروكة، محولين زنازين الموت إلى مشاهد بصرية تثير الفضول. البعض يقدم محتوى استقصائياً يكشف تفاصيل ما جرى، لكن كثيراً مما ينتج يحصر في نطاق الإثارة البصرية والاستعراضية التي تحاكي "جمالية الرعب".

الخطر يتضاعف حين تنزلق بعض هذه المواد نحو إعادة تشكيل الرواية استناداً إلى تصورات سطحية أو مغلوطة، كما حدث في تناول بعض المحتوى لسجن صيدنايا. الميل لإخضاع سردية المعتقلين إلى منطق الانتقاء، والترويج للقصص الأكثر وحشية إثارة واضحاً.

هذا النهج يؤدي إلى تشويه الصورة الكاملة للانتهاكات، ويعيد إنتاج سردية غير عادلة، تجعل بعض الضحايا أكثر "استحقاقاً" للاهتمام من غيرهم، وفقاً لدرجة العنف الذي تعرضوا له.

التجميل القسري: عندما يُمحى التاريخ باسم الفن

برزت مبادرات تطوعية تسعى إلى إعادة تأهيل هذه السجون، بدعوى "تحويلها إلى أماكن إيجابية". مشاريع تقوم بطلاء الجدران، أو رسم جداريات فنية على زنازين الموت، لكن هذه المحاولات تثير إشكاليات جوهرية، إذ إن هذه السجون ليست مجرد مبان يمكن تجميلها.

فكرة تحويل أماكن القمع إلى مساحات "مفعمة بالأمل" دون أي عملية توثيق جادة وحقيقية، أو دون حفظ الذاكرة الجماعية لما جرى فيها، تخلق مخاطر واضحة، كما أنها ليست سوى شكل جديد من أشكال الإنكار غير المقصود.

تحويل السجون إلى مراكز خدمية: بين الضرورة وإعادة إنتاج النسيان

يطرح علم الاجتماع السياسي مفهوم "ذاكرة المكان" كجزء من الهوية الجمعية، حيث لا يمكن فصل المباني عن أدوارها التاريخية. هل يمكن لمبنى كان رمزا للقمع أن يتحول إلى مكان يوفر خدمات للمواطنين دون أن يفرغ من ذاكرته؟

في تجارب عديدة حول العالم، كانت استراتيجيات التعامل مع أماكن القمع جزءاً أساسيا من مشاريع العدالة الانتقالية بوصفها شواهد تاريخية على الفظائع التي ارتكبت فيها، ولا يجوز طمسها. التجارب العالمية تقدم نماذج واضحة في هذا السياق، إذ تحول معسكر "أوشفيتز" في بولندا إلى متحف يخلد ذكرى ضحايا الهولوكوست.

أما إذا كان لا مفر من تحويلها إلى مراكز خدمية نظراً لتعدادها الكبير، فلا بد من وضع ضوابط واضحة تحفظ الذاكرة، وتراعي البعد التوثيقي، وتمنع إعادة تدوير هذا الفضاء في سياق بيروقراطي يمحو معناه الأصلي.

إن تحويل مواقع القمع إلى مساحات ذات وظائف جديدة دون الاعتراف بماضيها يعيد إنتاج ذات الآليات التي قامت عليها السلطة القمعية في السابق: إعادة تشكيل الواقع وفق سردية جديدة.

بين التوثيق والاستغلال: الحاجة إلى نقاش أخلاقي

توثيق تاريخ هذه السجون يشكل ضرورة تاريخية وأخلاقية، خصوصاً مع سعي بعض الأصوات إلى إنكار أو تحريف ما جرى فيها. نحن بحاجة إلى نقاش أخلاقي حقيقي حول كيفية التعامل مع هذه المساحات، ليس فقط من منظور الذاكرة، بل أيضاً من زاوية العدالة والإنصاف.

مجرد التوثيق الرمزي لا يكفي، بل يجب أن يكون هناك التزام واضح بضوابط أخلاقية تحدد كيفية التعامل مع هذه المساحات. لا ينبغي أن تتحول إلى مواقع جذب سياحي تستغل لاستثارة الفضول، أو إلى مسارح لصناعة محتوى يفرغها من معناها الحقيقي.

الطريقة التي نختار بها التعامل مع هذه السجون تعكس كيف ننظر إلى الماضي وكيف نستعد للمستقبل. يتطلب الأمر مقاربة متعددة الأبعاد، تتجاوز المعالجة الشكلية.

التعامل مع إرث السجون والأفرع الأمنية التي شهدت الفظائع ليس مجرد مسألة عمرانية أو إعلامية أو قرارات آنية، بل هو مسؤولية أخلاقية جماعية. الذاكرة ليست رفاهية، بل هي حائط الصد الأخير ضد تكرار الماضي.

مشاركة المقال: