السبت, 23 أغسطس 2025 03:41 PM

نتنياهو و"إسرائيل الكبرى": قراءة في جوهر المشروع الصهيوني ومساره التاريخي

نتنياهو و"إسرائيل الكبرى": قراءة في جوهر المشروع الصهيوني ومساره التاريخي

بقلم: علي حيدر

عندما تحدث رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن "إسرائيل الكبرى"، لم يكن بصدد تقديم مفهوم جديد في الأدبيات الصهيونية، بل كان يعلن عن عنوان واضح لمسار تاريخي لازم نشأة الكيان الصهيوني. فمنذ عام 1948، لم تحدد إسرائيل حدوداً نهائية لها، محافظةً على الغموض كخيار استراتيجي يسمح لها بالتوسع على مراحل، وليس دفعة واحدة.

وهكذا، تأتي كل مرحلة استجابةً لمعادلة قوة جديدة: من التوسع بعد قرار التقسيم، إلى ضم الضفة الغربية والقدس والجولان وسيناء في عام 1967، ثم اجتياح لبنان عام 1982، وصولاً إلى مشاريع النفوذ الإقليمي اللاحقة.

تعتمد سياسة "التسييل المرحلي" على ترسيخ كل مكسب ليصبح قاعدة للمرحلة التالية، إلا إذا واجهته مقاومة تجبر العدو على الانسحاب. لكن التجارب التاريخية تؤكد أن إخراج إسرائيل من أي أرض لا يعني خروج هذه الأرض من دائرة أطماعها.

بناءً على ذلك، يمكن القول إن نتنياهو لم يخترع فكرة جديدة، بل أعاد صياغة نهج قديم، مفاده أن الأمن يفتح الباب للفرص، والسياسة تضفي الشرعية على النتائج، بينما تحول متغيرات الزمن المؤقت إلى دائم. وفي هذا السياق، لم يكن تصريحه الأخير عن "إسرائيل الكبرى" مغامرة كلامية، بل تعبير عن جرأة محسوبة ورسالة إلى الداخل والخارج مفادها أن إسرائيل لا ترى ما يمنعها من الجهر بطموحاتها الكبرى، وأن موازين القوى تسمح لها بقول ما تشاء دون خشية من تداعيات على أمنها القومي أو مسارها المرحلي تجاه غزة ولبنان وسوريا.

في جوهر العقل الإسرائيلي، لا تمثل هذه المرحلة مجرد مدة زمنية، بل منهجاً متكاملاً، خلاصته فرض وقائع على الأرض ثم شرعنتها بالقانون والدبلوماسية، وتسويقها على أنها "الوضع الطبيعي"، وهذا ما يحدث اليوم. فالضفة الغربية التي احتلت عام 1967، ثم غزيت استيطاناً وتهويداً، وفتتت جغرافياً، وربطت البؤر الاستيطانية فيها ببعضها لضمان السيطرة الأمنية عليها، يجري الحديث الآن عن ضم أجزاء واسعة منها، وتهجير الفلسطينيين من القسم المتبقي.

والواقع أن المراحل نفسها، من حيث الخطوط العامة، مرت بها المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948، حتى أصبح الحديث عن تحريرها موضع استغراب. وينطبق المفهوم نفسه على الحرب في غزة أيضاً، التي بلغت مرحلة العمل على تهجير سكانها. أما على الحدود الشمالية، فالضغط تدريجي كجزء من مخطط داخلي – خارجي لتحقيق ما لم يتحقق في الحرب، عبر انتزاع تنازلات استراتيجية من لبنان.

الكلام عن "إسرائيل الكبرى" هو برنامج عمل طويل النفس، وليس مجرد شعار سياسي.

هكذا، يبدو أنه ليست ثمة حدود نهائية، بل خرائط نفوذ قابلة للتمدد والانكماش، لكنها جميعها تتحرك في اتجاه واحد: التوسع. ومع ذلك، ينطوي مشروع "إسرائيل الكبرى" على هشاشة؛ إذ إن كل توسع يراكم عوامل استنزاف ديموغرافي وأمني قد يصعب ضبطها، فيما يواجه كل رهان على غطاء دولي مطلق سقوفاً لا يمكن تجاوزها. أما كل عملية لا تتوج بنتائج استراتيجية راسخة، فتبقى مفتوحة على متغيرات قد تعيد قلب المعادلة. والمفارقة أن "المرحلية" التي منحت المشروع طول نفس، يمكن أن تواجه بانكسار مفاجئ إذا ما اصطدمت بتحولات أنتجت ردعاً صلباً، أو بمتغيرات دولية معاكسة.

في المقابل، فإن الكلام عن "إسرائيل الكبرى" هو برنامج عمل طويل النفس، وليس مجرد شعار سياسي، فيما يقصد بالإفصاح العلني عنه أيضاً تعويد الطرف المقابل على ما كان محرماً، وتحويل الصدمة إلى واقع. لكن هذا البرنامج هو، في الوقت نفسه، اختبار لمدى قدرة شعوب المنطقة على فرض كلفة حقيقية على العدو؛ إذ لما غابت هذه الكلفة، تحول الإعلان إلى قوة إضافية، في حين أنها عندما تحضر، ستجعل التصريح عبئاً على صاحبه.

الخلاصة، أن "إسرائيل الكبرى" ليست فكرة ولدت مع نتنياهو، بل هي جوهر مسار الحركة الصهيونية منذ تأسيسها، ومسار "الدولة" منذ قيامها. لكن الجديد أن ما كان المسؤولون الرسميون يتجنبون الإفصاح عنه بشكل صريح، بات يعلن جهاراً. والامتحان الفعلي لا يكمن في الرد لفظياً على العدو، بل في كسر الحلقة التاريخية التي تجعل من كل متغير فرصة للتوسع، ومن كل انتقالة مرحلة جديدة في مسار لا يعترف بالحدود. عندها فقط يفقد المشروع زخمه، وتستعيد المنطقة معادلة واضحة: ليس ما يقوله العدو هو الذي يرسم المصائر، بل ما تفرضه الشعوب والدول من كلفة وقيود في حسابات خصمها.

مشاركة المقال: