كشفت جولة الأيام الاثني عشر التي شملت أميركا وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، عن ملامح حرب لم تكتمل، حيث لم تنجح في تحقيق أهدافها الاستراتيجية المعلنة. فعلى صعيد تدمير البرنامج النووي الإيراني، أو تقويض القدرات الصاروخية لطهران، أو فرض قيود سياسية أو أمنية مستدامة على النظام الإسلامي لإجباره على تعديل خياراته الاستراتيجية، لم يتحقق المراد.
في المقابل، لم تتمكن إيران من تحقيق ردع كامل، على الرغم من نجاحها في فرض معادلة رد على تل أبيب وواشنطن، الأمر الذي سيضطرهما إلى أخذه في الاعتبار في أي خيارات لاحقة.
بناءً على ذلك، يمكن القول إن طهران خرجت من الحرب غير مهزومة، بل اكتسبت فرصة لإعادة بناء قدراتها من موقع أكثر خبرة وصلابة، مستندة إلى دروس الميدان وتأثيرات الحرب. وهذا ينطوي على خطورة جوهرية، لأنه يبقي الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام احتمالات التصعيد لاحقاً، خاصة إذا رأت الولايات المتحدة وإسرائيل أن أي تخفيف للضغوط، وعلى رأسها العسكرية، سيُفسَّر في إيران كدليل ضعف، ويشجعها على توسيع هامش المناورة الاستراتيجية لديها.
أعاد اللقاء الأخير بين رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إحياء نقاش حول نوعين من الخيارات المفترض اتباعها تجاه إيران. الأول يتبناه التيار المتشدد، خاصة في إسرائيل وأوساط من الإدارة الأميركية، ويدفع باتجاه استمرار الضغوط العسكرية على طهران، على أساس أن ما تحقق حتى الآن غير كافٍ للوصول إلى ردع دائم، وأن وقف الهجمات سيُفسَّر كتراجع، ويشجع الجمهورية الإسلامية على تسريع برامجها في منشآت سرية، خاصة بعد وقفها التعاون مع «الوكالة الدولية للطاقة الذرية».
أما التيار الثاني، الأكثر حذراً، فيخشى الانزلاق إلى مواجهة إقليمية أوسع، خاصة في ظل احتمال توسيع التدخل الإيراني في الجبهات غير التقليدية (اليمن، العراق، لبنان، سوريا) كرد فعل غير مباشر على التصعيد. وفي ضوء ذلك، يبدو أن الإسرائيلي يتجه إلى تفعيل مقاربة "المعركة بين الحروب"، التي تقوم على شن ضربات جزئية، متكررة، ومتفرقة، تهدف إلى إبطاء برامج التسلح الإيرانية أو تعطيلها، دون الانجرار إلى حرب شاملة.
تعكس هذه الاستراتيجية قناعة إسرائيلية بأن المعركة مع إيران طويلة الأمد، ولا يمكن حسمها بضربة واحدة، بل بسلسلة من الحملات المتراكمة التي تُبقي طهران تحت الضغط الدائم. ومع ذلك، فإنها لا تخلو من مخاطر، بالنظر إلى أن "جز العشب" في السياق الإيراني قد يؤدي إلى جولات تصعيد متبادلة، خاصة في ظل بقاء الطرفين في حالة جهوزية، وعدم اكتمال توازن الردع المتبادل.
وبالعودة إلى ما استعرضه وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، من محاضر النقاشات الداخلية في وزارة الأمن، أمام عدد من المراسلين والمحللين، فقد أشار إلى أنه في 23 كانون الثاني الماضي، تَقرّر أن "الإنجاز المطلوب هو تعطيل قدرة إيران على إنتاج وتطوير سلاح نووي لمدة زمنية محددة، تدفعها إلى إعادة النظر في جدوى إعادة بناء المشروع واستئنافه". ويعني ذلك أن الحد الأدنى للأهداف الإسرائيلية المأمولة لن يتحقق من دون سياسة توثب عدواني، يُراد عبرها ردع طهران عن خيار استكمال برامجها النووية والصاروخية وتطويرها، وهو ما لا يبدو قابلاً للتحقق.
على الرغم من أن مؤيدي خيار استمرار الضربات، يتسلحون بما يرونه رد فعل ضعيف من جانب القوى الدولية الحليفة لإيران (على رأسها روسيا والصين) على ما تعرضت له الأخيرة، فإن هذا التقدير يتجاهل ما قد يتطور إليه الوضع في حال تحول التدخل الأميركي إلى تورط أعمق في الساحة الإيرانية، قد يُستثمر من قبل بكين أو موسكو في ميادين أخرى لتعديل ميزان القوى العالمي.
من جهة إيران، فإن انتهاء الحرب في ظل تعزز جبهتها الداخلية السياسية والشعبية، واستمرار وجود البنية التحتية اللازمة لمواصلة برامجها وتطويرها، وفشل العدو في إخضاعها أو تقييد ردودها التي نجحت في بلورة واقع في الجبهة الداخلية الإسرائيلية لم يسبق أن شهدته الأخيرة منذ ما بعد حرب عام 1948، يعني أن البلاد لم تُهزم في هذه الجولة. لكن في المقابل، فإن التقدير في إسرائيل والولايات المتحدة يفيد بأن طهران لم تصل هي أيضاً إلى مرحلة اكتمال الردع، بل لا تزال عرضة لخطر الاستهداف، ما يجعل الحرب القادمة معها أقرب إلى أن تكون امتداداً لاختبار الردع المفتوح وليس بداية جديدة.
من هنا، يبدو أننا أمام مرحلة من التآكل البطيء لا الحسم السريع، تقوم على كسر الإرادة السياسية، لا البنية التحتية فقط؛ وهي مرحلة تتبنى إيران في خضمها استراتيجية متعددة الأبعاد، من ضمنها التحصين والغموض والتصميم على مواصلة برامجها واعتماد سياسة التوثب في الردود استناداً إلى مفهوم «الردع بالتراكم»، والذي يفرضه الفارق في موازين القوى والظروف الدولية.
على أن الخطورة في ذلك، بالنسبة إلى إسرائيل، أنه في حال لم تُترجم نتائج الحرب إلى سياسة واضحة ومستدامة، فإن ما تحقق منها قد يرتد سلباً على واشنطن وتل أبيب، في ظل ترجيحات بأن تتحول طهران إلى خصم أكثر خطورة وتعقيداً، يعمل على بناء معادلات ردع جديدة، ويستثمر الزمن لإعادة التموضع في سياق إقليمي ودولي مضطرب، حيث الفرص تتكاثر، والمخاطر أيضاً.