الخميس, 17 يوليو 2025 12:28 AM

نزار قباني في مصر: دبلوماسيًا وشاعرًا وممثلًا إذاعيًا.. قصة لم تروَ

نزار قباني في مصر: دبلوماسيًا وشاعرًا وممثلًا إذاعيًا.. قصة لم تروَ

لم تكن مصر بالنسبة إلى نزار قباني مجرد محطة أولى في مسيرته الدبلوماسية، بل كانت البوابة التي عبرها إلى قلوب الملايين كشاعر متميز. فمن خلال مصر، عرفه العالم العربي بشاعرية مختلفة، تجسدت في ديوانه الذي أثار جدلاً واسعًا آنذاك، "طفولة نهد".

كما أطل نزار قباني على الجمهور من خلال شاشة التلفزيون المصري في بداية بثه عام 1960، وقُدِّم ممثلاً إذاعياً للمرة الأولى والأخيرة عام 1967، في مسلسل "القيثارة الحزينة" الذي شاركته البطولة نجاة الصغيرة. بالإضافة إلى ذلك، انتشرت دواوينه في طبعات شعبية عبر مكتبة مدبولي، وشارك في إحياء الأمسيات الشعرية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب.

في كتابه "نزار قباني في مصر"، يرى الصحافي المصري علي النويشي أن دمشق كانت بمثابة الرحم الذي تشكلت فيه شاعرية نزار قباني، بينما كانت القاهرة الحاضنة التي رعت هذه الشاعرية والموهبة، وصاغت جنونه وإبداعه الشعري.

وقد تحمس لموهبة نزار قباني العديد من أعلام الأدب في مصر، مثل توفيق الحكيم. وكان أنور المعداوي أول من كتب عن ديوانه "طفولة نهد" عقب صدوره في القاهرة عام 1948. نشر المعداوي مقاله في مجلة "الرسالة" القاهرية، لكن رئيس تحرير المجلة أحمد حسن الزيات غيّر عنوان الديوان في المقال إلى "طفولة نهر"، "حفاظاً على وقار المجلة"، وهو ما اعتبره نزار قباني "ذبحاً لاسم الكتاب من الوريد إلى الوريد".

في ذلك الوقت، اعتبره المحافظون صادماً بصراحته التي تصل إلى حد الإباحية، بينما رأى فيه التقدميون عملاً يصرف الانتباه عن القضايا الجوهرية التي تهم الناس. لاحقاً، رفض نزار قباني وصفه بـ "شاعر المرأة"، واستاء بشدة عندما وصفه عباس محمود العقاد بأنه دخل مخدع المرأة ولم يخرج منه.

يستند النويشي في كتابه، الذي يقع في 326 صفحة من القطع الكبير، إلى عدد كبير من المراجع المكتوبة والسمعية والبصرية. ومن بين هذه المراجع مذكرات نزار قباني "قصتي مع الشعر" الصادرة عام 1970، والتي جاء فيها على لسان الشاعر الكبير أن "الناس يعرفونني عاشقاً كبيراً، ولا يريدون أن يعرفوني غاضباً كبيراً"، تعليقاً على استقبال الناس لقصائده ذات الطابع السياسي بعد هزيمة 1967.

ويعيد النويشي نشر مقاطع من هذه المذكرات ورسائل من نزار قباني إلى عدد من المثقفين المصريين مثل محمد حسنين هيكل ورجاء النقاش وأنور المعداوي (1920 – 1965). والأخير عُرِف بارتباطه بقصة حب مع الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان عبَّرت عن نفسها في رسائل تبادلاها من 1951 إلى 1954، ثم جمعها وعلَّق عليها رجاء النقاش في كتاب "صفحات مجهولة في الأدب العربي".

كتب نزار قباني للمعداوي رسالة بتاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر 1948، جاء فيها: "إن أيامي معك في مصر أعتبرها من أكثر أيام عمري أناقة، والليل الذي طرزْناه بأشواقنا في طريق الجيزة لم يزل يسأل عنك. أنا كبير الثقة بأنني وجدتُ في مصر تلك الروح الشاعرة التي استطاعت أن تنفذ إلى عتمة ظنوني وسحيق آفاقي وتستخرج النور من صميم الظلمة". وكان المعداوي وقتذاك "الناقد الأدبي الأول في العالم العربي، بعدما ترك العقاد وطه حسين ميدان النقد". وتصدى المعداوي كذلك لنقد الشيخ علي الطنطاوي العنيف لديوان نزار قباني الأول "قالت لي السمراء" الذي صدر في دمشق عام 1944 عندما كان شاعرنا لا يزال يدرس في كلية الحقوق في الجامعة السورية.

أقام نزار قباني عقب وصوله إلى القاهرة عام 1945 في حي العباسية، ثم استقر في ضاحية مصر الجديدة، وكان يستخدم المترو في الذهاب إلى عمله في وسط القاهرة، والعودة إلى بيته. وخلال ذلك كتب قصائد ديوانه "طفولة نهد". وفي لقاء مع التلفزيون المصري أداره الشاعر فاروق شوشة قال قباني عن تلك الفترة: "كانت القاهرة فردوسي، فيها تحررتُ من جاذبية الأرض". وأضاف: "أسعدني أن أدخل الوسط الأدبي والفني والصحافي من أعرض أبوابه، وأعرف صفوة أعلامه، والحمد لله أنهم أرسلوني إلى القاهرة بدلاً من باريس".

وعندما اشتكى من ظروف عمله الديبلوماسي في الصين عام 1958، تحدث هيكل مع عبد الناصر في هذا الأمر، فقرر نقله إلى إسبانيا، بحكم أنه وقتذاك كان رئيس الجمهورية العربية المتحدة التي ضمت سوريا بوصفها الإقليم الشمالي لتلك الجمهورية، ومصر بوصفها إقليمها الجنوبي. وينقل النويشي عن الشاعر المصري أحمد الشهاوي قوله: "تعوَّد نزار على مصر وتعوَّدت مصر عليه، واعتبرته واحداً من شعرائها".

وبعدما راجت دواوين قباني بطبعاتها الشعبية في مصر، جاء دور الغناء ليحقق له الانتشار الواسع عبر أصوات نجاة الصغيرة ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وعفاف راضي، وأم كلثوم.

أما الأمسيات التي كان يحييها في معرض القاهرة الدولي للكتاب، فكانت وراء توهج نجوميته في أوساط المثقفين من مصر وغيرها من البلاد العربية. وبعد مقتل زوجته بلقيس الراوي بحادث نسف سفارة العراق في بيروت في أواخر عام 1981، أطبق على نزار قباني حزن شديد، دفعه إلى التفكير جدياً في الانتقال إلى القاهرة، وما إن فعل ذلك حتى وجد نفسه في مواجهة حملة من جانب بعض الصحافيين، منهم موسى صبري وأنيس منصور، بسبب قصيدة هجا فيها السادات. وعلى رغم دفاع محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ويوسف إدريس والموسيقار محمد عبد الوهاب عنه، فإنه آثر أن ينتقل من مصر إلى سويسرا عام 1984، ثم إلى لندن.

وبحسب النويشي فإنه عندما جاء نزار قباني إلى مصر عام 1945، ديبلوماسياً في سفارة بلاده، كان عمره 22 عاماً، ومنها انطلق نحو عالم الشهرة، وعندما غادرها بعد 3 سنوات، "لم يكن يعلم أنه ارتبط بها حتى آخر لحظة في عمره". يقول قباني: "كانت القاهرة وقتذاك، في ذروة نضجها الثقافي والصحافي والإذاعي، ومن هنا كان لها بالنسبة إلي فضل الربيع على الشجر". ووفقاً للنويشي أيضاً فإن نزار قباني، "دشَّن في مصر شاعريته ورحلته كمثقف".

وما لا يعرفه كثيرون هو أن نزار قباني جرَّب في القاهرة أن يكون ممثلاً. ففي عام 1967 شارك بالتمثيل في المسلسل الإذاعي "القيثارة الحزينة"، من تأليف يوسف السباعي وإخراج السيد بدير وموسيقى محمد عبد الوهاب. وجاء ذلك استثماراً لنجاح أغنيتين لنجاة الصغيرة من ألحان محمد عبد الوهاب، كتبهما نزار قباني وهما: "أيظن" و"ماذا أقول له". وقام نزار قباني في هذا المسلسل بدور صحافي يكتب الشعر، وبالتالي تضمَّن قصائد له منها "الحسناء والدفتر". ولاحقاً غنت له نجاة الصغيرة من تلحين عبد الوهاب "متى ستعرف" وعنوانها الأصلي "إلى رجل" وهي من ديوان "قصائد متوحشة"، و"أسألك الرحيلَ" من الديوان نفسه. وغنت له أم كلثوم "أصبح عندي الآن بندقية"، و"عندي خطاب عاجل إليك"، من تلحين محمد عبد الوهاب. وغنى له عبد الحليم حافظ "رسالة من تحت الماء"، و"قارئة الفنجان" من تلحين محمد الموجي. وغنت له عفاف راضي "أحبك جداً" من تلحين بليغ حمدي. وغنت له فايزة أحمد "رسالة من امرأة"، من تلحين محمد سلطان، وعنوانها الأصلي "لا تدخلي" وهي من ديوان "قصائد".

وعقب العدوان الثلاثي على مصر 1956 كتب قصائد عدة على شكل "رسائل" موجهة إلى جندي مصري في بورسعيد.

وبعد انطلاق بث التلفزيون المصري عام 1960 كان نزار من أول ضيوفه في لقاءات مباشرة. وبعد هزيمة 1967 كتب "هوامش على دفتر النكسة". كما كتب قصائد عدة في رثاء عبد الناصر، وكتب قصيدة في رثاء طه حسين. وحب نزار قباني للقاهرة، لا يعادله سوى حبه لبيروت.

يقول علي النويشي: "يظنَّ كثيرون أن نزار قباني لبناني المولد والجنسية، لما كان في قلبه من حب لهذا الوطن وعاصمته بيروت. كان دائم السكن في بيروت، وكتب العديد من القصائد أثناء الحرب في لبنان، تحكي عن حبه لهذا البلد وألمه الشديد لتحويل لبنان الثقافة والعلم والنور والجمال والحرية إلى ساحة للقتل والتدمير. ويورد النويشي في هذا السياق مقالاً نشره نزار قباني في مجلة "الحوادث اللبنانية عام 1977 بعنوان "رسالة إلى مسلَّح"، والقصيدة التي كتبها في مرضه الأخير وأوصى بألا تنشر إلا بعد وفاته، ووقَّعها على النحو التالي: "نزار قباني من العالم الآخر"، وهنا يستحضر النويشي قول صلاح عبد الصبور: "كان يريد أن يموت كي يعود للسماء / كأنه طفل سماوي شريد، قد ضلَّ عن أبيه في متاهة المساء".

مشاركة المقال: