السبت, 26 يوليو 2025 09:29 AM

العشائر في سوريا: دور متذبذب بين الأنظمة وتحديات المرحلة الانتقالية

العشائر في سوريا: دور متذبذب بين الأنظمة وتحديات المرحلة الانتقالية

في مشهد معركة السويداء الأخيرة، التي جمعت الحكومة الانتقالية والشيخ حكمت الهجري، القائد الروحي والسياسي للمحافظة الجنوبية، برز دور العشائر بشكل لافت، حيث احتشدت أرتال من مختلف المحافظات استجابة لنداء "الفزعة" بعد انسحاب قوات الأمن والجيش من السويداء. هذا التطور سمح للعشائر بالظهور كلاعب عسكري مؤثر، يحتاج إليه "الدولة" للدفاع عنها.

وقد ساهم شكر الرئيس الانتقالي أحمد الشرع للعشائر وإشادته "بمواقفها المشرفة بالوقوف إلى جانب الدولة عبر تاريخها!" في تعزيز صورة العشائر، مما يرشحها لأدوار سياسية وعسكرية متعددة في المستقبل، خاصة وأن للعشائر في سوريا امتدادات في دول عربية عدة، وخاصة الخليجية، مما يمنحها عمقاً عربياً في ممارسة أي دور يُطلب منها.

لا يوجد إحصاء دقيق لنسبة العشائر في المجتمع السوري، مما أدى إلى تقديرات متباينة. فالمناهج التعليمية في المدارس السورية تخفض النسبة إلى 3%، بينما يرفعها خبراء في الحالة العشائرية إلى 40% أو ربما 50%، مع الإشارة إلى أن الحالة الحضرية في سوريا يمكن أن تعود بسهولة إلى الحالة العشائرية في ظروف خاصة.

تغير دور العشائر وفق بنية الدولة المركزية في سوريا. ومع إعادة التموضع الجغرافي للقبائل السورية، تشكلت كيانات سياسية جديدة تذبذبت بين التحالفات والصراعات. ففي الحرب العالمية الأولى، انقسمت العشائر بين فرنسا وتركيا. وخلال الانتداب الفرنسي لسوريا، وقفت بعض العشائر مع فرنسا، فيما وقف قسم آخر مع بريطانيا. وأدى سنّ قانون العشائر إلى صراعات دموية، مما أجبر فرنسا على توقيع الصلح عام 1934. واستمر ولاء العشائر لزعمائها لا للدولة حتى بعد نهاية الانتداب الفرنسي، وتضاءل دورها عموماً، وانخفضت حصتها في البرلمان من تسعة إلى ستة أعضاء مع اعتماد دستور عام 1950.

مع الوحدة السورية ـ المصرية (1958-1961) بقيادة جمال عبد الناصر، ألغي "قانون العشائر" بموجب القانون رقم 166 الصادر في 28 أيلول/ سبتمبر 1958، وفقدت العشائر امتيازاتها، ولم يبقَ لها سوى بعض المقاعد في مجلس الأمة. وعندما تولى حزب البعث السلطة وقام بتأميم الأراضي الخاصة، فقد رؤساء العشائر عقاراتهم التي صودرت بموجب القانون الجديد. فلم تكن العشائر سوى أدوات في كل المراحل التي عرفت فيها سوريا أنظمة عسكرية حتى عام 1970.

وفي حديث مع "النهار"، قال الدكتور صلاح نيوف، أستاذ العلوم السياسية: "استطاعت العشائر أن تجد مصالح مشتركة مع حافظ الأسد، حيث أدّى شيوخ العشائر دورًا في تثبيت حكم حافظ الأسد في مواجهة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي. لقد كان للعشائر الدور الوظيفي التاريخي مع من يحكمهم أو يسيطر عليهم".

وقال لـ"النهار" أيضاً حكمت حبيب، من دائرة العلاقات الخارجية، شمال شرق سوريا: "عمل البعث بشكل ممنهج على تمزيق هذه المنظومة الاجتماعية وتشتيتها؛ إذ استخدم أجهزته الأمنية لإحداث شرخ داخل البنية العشائرية، ما أدّى إلى انقسامات وتشظٍّ داخل العشيرة الواحدة، الأمر الذي قوّض دور المضافات والربعات وجعلها شكلية".

أعاد اندلاعُ الحرب السورية العشائر إلى دائرة الضوء والاهتمام، حيث حاولت الأطراف المختلفة: النظام والمعارضة والجهاديون، التركيز على استقطاب ولاء العشائر لتجنيدها في صفوفها، الأمر الذي زاد من أهميتها لكنه أيضاً عرّضها لمزيد من التشظي والانقسام. ولاحظ بعض مؤرخي الحرب السورية أن أول فئة حملت السلاح ضد نظام الأسد كانت العشائر، مثل عشائر بابا عمرو والوعر في حمص. وذهب هؤلاء إلى أن بنية الجيش الحر قامت على أسس عشائرية واضحة.

وقد يفسر ذلك أن بشار الأسد اعتمد بشكل واضح على أبناء العشائر في مواجهة الجيش الحر، حيث عيّن فهد جاسم الفريج، المنحدر من الحديديين، وزيراً للدفاع، بالإضافة إلى ترقية ضباط آخرين منحدرين من عشائر معروفة وتسليمهم قيادة فرق عسكرية. وفي نهاية عام 2012، مع تفكك الجيش السوري الحر وانسحاب النظام السوري من المناطق الريفية في شمال شرق البلاد، سعت العشائر للسيطرة على حقول النفط والغاز في المنطقة في دير الزور والحسكة، وتحالفت مع القوى الجديدة الناشئة على الأرض ولا سيما تنظيم "داعش" وجبهة النصرة.

وبحسب الدكتور نيوف: "عزز ظهور داعش العلاقات بين الولايات المتحدة وبعض القبائل المعارضة للحركة الإرهابية. وأدّى تعميم الحرب الأهلية في سوريا إلى تجزئة القبائل وإضعافها، التي أصبحت منذ ذلك الحين عرضة لتأثير القوى الإقليمية والدولية المتورّطة في الصراع".

وقال حكمت حبيب: "استمرت حالة الانقسام العشائري؛ حيث ظهر شيوخ جدد بشكل طارئ نتيجة الأوضاع، وادعى كل منهم أنه الممثل الشرعي للعشيرة أو القبيلة، فيما غيّر كثير من أبناء العشائر مواقفهم وتوجهاتهم وفقًا للواقع الجديد". عملياً انقسمت العشائر حسب مناطق النفوذ والسيطرة وظهرت هيئات ومجالس باسم القبائل والعشائر مختلفة الولاء بين النظام وتركيا و"قسد" و"هيئة تحرير الشام".

وبحسب المحامي عبد الكريم الثلجي المهتم بملف العشائر، في حديث مع "النهار"، فإن "هيئة تحرير الشام حاولت احتواء العشائر في إدلب عبر عدة طرق: دعم زعامات العشائر وتقويتهم وتوظيف العشائر في الحرب من خلال تشكيل مجموعات مقاتلة محسوبة على العشائر لخوض المعارك". ويبدو أن الهيئة بعد تسلّمها الحكم استمرت في السياسة السابقة ولكن على نطاق أوسع أصبح يشمل ثلاث مناطق من مناطق النفوذ الأربع باستثناء المنطقة الواقعة تحت سيطرة قسد في شمال شرق سوريا.

وقد توّجت سياسة الحكومة الانتقالية الحالية مع العشائر بالفزعة التي تصدّرت مشهد الأحداث في السويداء وكادت تغيّر مساره نحو حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.

وقال حبيب: "ما يجمع بين النظام السابق والسلطة الحالية هو استغلال العشائر كقوة للدفاع عن الدولة وفق منظورهم، بينما الدولة الحقيقية تقوم على عقد اجتماعي وقوانين". أما الثلجي فرأى أنه "أصبحت العشائر رقماً صعباً، سياسياً، فالعشائر اليوم تفرض حضورها في أي استحقاق سياسي في سوريا، ولها ثقل عسكري فأغلب أبنائها يحملون السلاح، أما الدولة السورية فتمكنت من استعادة الثقة مع العشائر السورية".

ويستنتج الدكتور صلاح نيوف من فزعة العشائر في السويداء أنها "لم تخرج عن دورها الوظيفي التاريخي والبحث عن المكاسب بمعناها الواسع منذ العهد العثماني". وإذ أعرب الثلجي عن مخاوفه من غلبة التطرّف على العشائر نتيجة تأثيرات عديدة بعضها خارجي، لاحظ نيوف أن "بيانات العشائر قبل مجازر السويداء الأخيرة تبنّت الخطاب الديني الجهادي".

بدوره، رأى حكمت حبيب أنّ الأحداث الأخيرة تنذر بأن القادم أكثر خطورة، وقد يدخل البلاد في نفق مظلم يقود إلى حرب أهلية. لذلك يجب على إدارة المرحلة الانتقالية أن تتعامل مع الملفات المجتمعية بحذر، وألا تنحاز لطرف ضد آخر، وألا تستغلّ مسألة العشائر كقوة تُوجَّه ضد أبناء جلدتهم.

مشاركة المقال: