السبت, 4 أكتوبر 2025 01:18 AM

مفيد أحمد: الشعر، "جيسيكا"، ورسائل لا تصل.. تأملات في الوجود والاغتراب

مفيد أحمد: الشعر، "جيسيكا"، ورسائل لا تصل.. تأملات في الوجود والاغتراب

ينشغل الأديب السوري مفيد عيسى أحمد بالعديد من النتاجات الأدبية، مع ميل واضح نحو الرواية، حيث قدم ثلاث روايات على الأقل، بالإضافة إلى إسهاماته في القصة القصيرة، بينما كان أقل حضوراً في النقد الأدبي وكتابة القصيدة. انطلاقاً من شهرته في الرواية والقصة، نستعرض في هذا المقال مختارات من نصوصه الشعرية، التي تعكس رؤية وجودية عميقة لمعنى الحياة والموت والحب والاغتراب في زمن يسوده الشك.

تختبر هذه النصوص الحالة الإنسانية بين العدمية والبحث عن الجمال، وبين هزيمة الذات أمام مرآة العمر. يقول الشاعر: "لا أدري كم عمري الآن غير أني كلّ صباح تطالعني في المرآة عينان مهزومتان، وُّيمتد خلفي فراغٌ لا نهاية له … لقد مرَّ زمنٌ.. أعرفُ هذا من ياقات قمصاني المتفصدة، من الستائر المهلهلة، من الدهان الحائل، من وجوه الناس في الجنازات.. (…) لا أدري كم عمري الآن لكن جسدي صارَ يتشرى المطر تارةً، ويستوطئُ الشمسَ أخرى، وكأنني صرتُ مدى، أو أني صرتُ أقربَ إلى إيقاع التراب."

يطرح الشاعر سؤال الوجود من خلال علاقته بالزمن، مستحضراً تصوراً وجودياً يقترب من فلسفة (هايدغر) حول الوجود والزمن، حيث يصبح الجسد شاهداً على الانهيار.

"جيسيكا تنتظرُ أن تصل رسائلها بتوقٍ غض، بجسدٍ طيّع يموه ناراً مشبوبة … جيسيكا امرأةٌ وحيدة؛ بابها مغلقٌ دائماً، لم تقرأ رسائلها أبداً لكنها كانت تنتظرها وتستلمها بلهفةٍ.." تظهر المرأة في نصوص أحمد بأوجه متعددة، فهي (جيسيكا) التي تنتظر رسائل لا تأتي، و(مريم) ذات الطابع المقدس، وعاملة النظافة المنهكة في المشفى. المرأة هنا ليست مجرد موضوع للرغبة، بل رمز للانتظار والأمل والخيبة.

كما في نص (يا مريم) حيث يكتب: "يا مريم… شممت رائحتك تماماً في جسد أمي".

"السبّاك.. الذي أعياه صلب المعادن؛ يتمنى أن يكون جسدهً صلباً مثلها، لو أنه على الأقل مصنوع من البكاليت.. … المحاربُ الشرس.. في الاستراحة القصيرة؛ يتلمس ذخيرته الخارقة الحارقة يجفل.. ثم يسترخي و يكاد يغفو، المحارب، يحلم بجسدٍ لا يخترقه الرصاص أو بجسدٍ كجسد (أرنولد شوارزنغر) في أفلامه الخيالية.."

يحضر الجسد كموضوع مركزي، ونرى أجساد المنهكين، فالجسد هنا سجن الهوية ومعبر الألم، ومن ثم كان اشتهاء أجساد بديلة كمقصان لتهريب تعب الجسد والروح.

"ثلاثون عاماً في دمشق، و لم ينادني أحدٌ: أيها الغريب.. أنا من دمشق.. كنت أسمع من يصيح باسمي، وأنا أعبرُ سوق(الأراماني).. أصعد طلعة (الشهبندر)، من يبادلني السلام. أنا من دمشق، و إلّا كيف لامرأةٍ أن توقظني كما كانت تفعل أمي.. أنا منها؛ أغمضوا عيني، ولن أضيع بيقيني سوف أعرفُ الطريق." هنا يصل الاغتراب إلى ذروته، حيث تصبح المدينة فضاءً لا يعترف بسكانه.

"والآن.. آن الغياب؛ أستثقل كلَّ شيءٍ: جسدي، الهواء، وهذا الليل.." هنا تتحول العدمية إلى موقف فلسفي تجاه الوجود، حيث يصبح الغياب قدراً محتوماً.

تنعكس حالات العدم والشك واللامبالاة في النصوص، لكن دائماً ثمة أمل، ربما يأتي من الفن. "أشتاق إلى دفاترك إلى رسومك، وأنت تحاولين تفسير جسدك؛ فترسمين تارةً زهرةً غامضة، وأخرى لطخةً طين، تفاحةً وسنبلة.. ثمَّ ساعة حائط خربة، فغيمة.. رسمت بعدها طائراً مذبوحاً ثم لم يكن إلّا البياض."

يحضر الفن كملاذ أخير من الانهيار، والموسيقا كمنقذ من العدم. هذه الموضوعات تظهر تأثر الشاعر بالتيارات الحداثية وما بعد الحداثية التي تدمج الفنون في النص الأدبي.

تعتمد نصوص مفيد أحمد على التكثيف الشعري والانزياح عن المألوف، خالقة شعوراً بعدم الاستقرار والغرابة. كما تتنقل النصوص بين أصوات متعددة وأمكنة مختلفة، وتستخدم المفارقة والسخرية السوداء كوسيلتين للتعبير عن المأساة.

تمثل النصوص الشعرية المختارة لمفيد عيسى أحمد صوتاً وجودياً يوثق لحظة الانهيار للكائن العربي بمهارة فنية عالية، ويقدم رؤية تتجاوز السرد السياسي المباشر إلى التأمل الفلسفي في مصير الإنسان في زمن الحرب والعدم.

قصيدة مفيد أحمد تجد لها مطرحاً باذخاً في ديوان الشعر السوري، كما في مناخات قصيدة النثر العالية، وهذا واضحٌ في نصوصه التي تدمج بين اليومي والوجودي، الشخصي والعام، الواقعي والمتخيل.

"على شاشة الكومبيوتر رسالةٌ تقول: "يُرجى الانتظار حتى نتأكد أنك إنسان" أنتظر.. بعد دقيقة تبدأ تعليمات؛ تطلبُ مني أفعالاً صغيرة.. أدر هذا الشكل نحو اليمين، ثم نحو الإشارة، ثم باتجاه أصابع اليد ثم.. وأنا أفعل ذلك كمن يلعب.. ثم تدور دوائر المعالجة، و بعد ثوانٍ فقط؛ تظهر رسالة: "مبروك.. لقد تأكدنا أنك إنسان.." أعيد قراءتها بدهشةٍ.. وأقول: سيأتي وقت….لن تبارك فيه لأحد."

نصوص مفيد أحمد في معظمها لا تقدم إجابات بقدر ما تطرح أسئلة وجودية عميقة: كيف نحب في زمن الموت؟ كيف نبحث عن الجمال في زمن القبح؟ كيف نوفق بين الانتماء والاغتراب؟ وكيف نقاوم الانهيار بالإبداع؟ هذه الأسئلة تجعل من شعر مفيد عيسى أحمد وثيقة إنسانية ستظل تشهد على عصرنا.

اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية

مشاركة المقال: