عبد الله سليمان علي - توّجت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو ولقاؤه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي سلسلة من الاتصالات والاجتماعات التي بدأت بعد فترة وجيزة من سقوط نظام بشار الأسد. وكان الشرع قد كشف سابقًا عن تنسيق مع الروس خلال معركة "ردع العدوان"، بينما أكد وزير الخارجية أسعد الشيباني حصول اجتماعات واتصالات قبل يومين فقط من فرار الأسد، مما أعاد "سردية الصفقة" إلى الواجهة بقرائن أقرب إلى التأكيد.
على الرغم من إلغاء القمة العربية الروسية، بقي موعد الكرملين ثابتًا، في إشارة واضحة إلى أن اللقاء الثنائي لا يحتاج إلى غطاء إقليمي. بدت الزيارة خطوة مقصودة لافتتاح مرحلة يتم فيها اختبار حدود النفوذ وصيغ الشراكة.
بهذا المعنى، لم يعد ما جرى في الكرملين حدثًا معزولًا، بل جزءًا من مشهد أوسع تتقاطع فيه حسابات القوى الكبرى والإقليمية. فالمعادلة التي تحكم اليوم العلاقة السورية الروسية تُقرأ عبر شبكة مصالح متشابكة تمتد من واشنطن وأنقرة وتل أبيب إلى بروكسل، بالإضافة إلى موسكو نفسها، بينما تحاول دمشق إعادة تعريف موقعها كلاعب قادر على المناورة لا طرف تابع.
في هذا السياق، قدم مالك الحافظ قراءة ترى في الزيارة محاولة لإعادة تعريف تموضع السلطة الانتقالية بعد سقوط النظام السابق. تعطّلت القمة العربية الروسية، لكن دمشق مضت إلى موسكو طلبًا لاعتراف روسي مباشر واختبارًا لندية ممكنة، في ظل تراجع قدرة موسكو على الإمساك المنفرد بالملف السوري بعد حرب أوكرانيا وحاجة سوريا الخارجة من الحرب إلى غطاء سياسي دون ارتهان.
في المقابل، قدم بشار الحاج علي قراءة أكثر براغماتية: خطوة لمعالجة "الملفات القديمة" لا أكثر، مثل العقوبات والتصنيفات ودور موسكو في مجلس الأمن. إصرار الروس على اللقاء المباشر، رغم تعطل القمة، إشارة إلى رغبتهم في إبقاء العلاقة قائمة على التعامل الواقعي. وفق هذا المنظور، تصبح العلاقة عملية ومحددة الملفات: أقل شعارات وأكثر ترتيبات تنفيذية.
يعزز هاتين القراءتين ما برز من تباين في الخطاب الرسمي بين الرئيس الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني: الأول شدد في موسكو على احترام الاتفاقات السابقة مع روسيا، بينما أعلن الثاني أن تلك الاتفاقات الموروثة عن عهد الأسد "معلقة" ولا يمكن القبول بها بصيغتها القديمة، مع الإشارة إلى مفاوضات لإعادة النظر فيها. يوضع هذا التباين في خانة الاحتمالات الواقعية: إما توزيع أدوار مقصود يطمئن موسكو ويترك للداخل مساحة مراجعة، وإما غموض مُدار يوسع هامش المناورة ريثما تُحسم البنود التشغيلية. في الحالتين، الاتفاقات لم تعد مسلمات، بل مواد تفاوض.
وعلى هذا التباين يطل العامل الدولي والإقليمي كإطار لا يمكن تجاوزه: واشنطن تتابع بصمت محسوب أي تقارب قد يمس ترتيباتها غير المباشرة في الشمال الشرقي، وأوروبا تربط أي انفتاح على دمشق بمراجعة الوجود العسكري الروسي وضمانات حقوق الإنسان، مع بروز أصوات براغماتية ترى في الدور الروسي عنصر ضبط مؤقتًا. تنظر أنقرة بقلق إلى أي تغيير في وضع القامشلي، لكنها لا تعارض استمرار الوجود الروسي إذا كبح تمدد خصومها ووسع هوامش التفاهم في إدلب والحدود الشمالية. أما تل أبيب فترى في استمرار الدور الروسي عامل توازن بين النفوذين التركي والإيراني، وتواصل ضرباتها ضد أهداف مرتبطة بإيران مستفيدة من قنوات التنسيق القائمة. وعند هذه النقطة يبرز ملف القواعد العسكرية بوصفه الامتحان الأوضح لصيغة العلاقة الجديدة. يتحدث الحافظ عن احتمال تحويل حميميم إلى مركز لوجستي مشترك للمراقبة والدعم التقني، واستمرار طرطوس نقطة بحرية استراتيجية، مع بقاء القامشلي الأكثر عرضة للمراجعة بحكم حساسيتها الجيوسياسية. ويذهب الحاج علي في اتجاه مقارب لكن يربط أي تقليص محتمل بطرطوس تحديدًا، معتبرًا أن وزنها الحالي متصل بالملفات القديمة وبأدوار موسكو في مجلس الأمن أكثر من كونه تعبيرًا عن استراتيجية توسعية. عند هذه النقطة يلتقي التصوران: قد تطلب دمشق "دارة مشتركة تُظهر السيادة وتُحكم تعريف المهمات، لا لبناء شراكة كبرى بقدر ما هو لإعادة ترتيب الملفات العالقة ومراجعة الصفقات السابقة.
لم تُختبر الزيارة فقط في قاعات الكرملين. بالتزامن، ظهرت روايات بديلة: بيانات لرامي مخلوف وأيمن جابر عن "اتفاقات" تمس الساحل، من انسحابات أمنية إلى ترتيبات إدارية واقتصادية، دون تأكيد لمضامينها، ما يوحي بمحاولة استثمار اللحظة لبث إشارات عن قدرة الفلول على التأثير في ملفات حساسة. وفي السياق نفسه، أصدر فصيل يطلق على نفسه تسمية "بركان الفرات" تهديدات ضد الرئيس الشرع وقاعدة حميميم بلا تبن لعمليات جديدة، إذ يظل سجله مرتبطًا بعملية سابقة في أيار/مايو. ورغم محدودية الوزن العسكري لهذه التهديدات، فإن حضورها يذكر بحساسيات كامنة حيال أي تثبيت للدور الروسي، ويكشف طبقة موازية للمشهد: صراع رمزي وأمني يواكب المفاوضات ويؤكد هشاشة البيئة التي تتحرك فيها دمشق وموسكو معًا.
في المحصلة، تبدو العلاقة السورية الروسية اليوم مساحة تفاوض مفتوحة، أقل شعارات وأكثر واقعية. علاقة تدار بالحساب لا بالانفعال، توسع هامش المناورة وتشتري الوقت دون وعد بخلاص سريع أو تبعية جديدة؛ وفي انتظار الحسم القانوني والعسكري، تبدو "الاستمرارية القانونية" الطريق الأضيق والأكثر واقعية: إبقاء الاتفاقات نافذة بصيغ محدثة ومدد ومهمات معرفة، ريثما تتضح الخريطة النهائية للمصالح (أخبار سوريا الوطن1-النهار)