لا يزال اسم الأديب السوري الكبير زكريا تامر، المولود في دمشق عام 1931 والمقيم في بريطانيا، حاضرًا في الذاكرة، إلا أن غيابه عن حديث السوريين يعكس تراجع الاهتمام بالأدب السوري عمومًا. ففي أوقات الحروب، غالبًا ما يتوارى الأدب وتتراجع الفنون، ليحل محلها أنصاف الأدباء والشعر الخطابي المؤقت.
في ستينيات القرن الماضي، ومع سطوة الأدب الواقعي الاشتراكي الملتزم، بزغ نجم زكريا تامر بقصصه القصيرة المتميزة، التي لا تلتفت إلى الأيديولوجيات أو القوالب الجامدة، بل تركز على الارتقاء بالفرد والدفاع عن حريته في مجتمع يقدس الجماعة. وفي تطور لاحق، عندما خصصت له صحيفة "القدس العربي" زاوية يومية، أبدع زكريا قصصًا تمزج الغرابة بالرمزية والسخرية اللاذعة.
التقيت زكريا تامر لأول مرة عام 2002، خلال أيام القصة القصيرة السورية التي نظمها المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق. وكما هو معتاد، كانت الأنشطة المصاحبة للفعاليات الأدبية أكثر جاذبية. خلال تلك الفترة الصيفية، انطلق أديبنا الكبير في ممارسة هوايته الأزلية: التجول الليلي في شوارع دمشق. نحن الأدباء الأصغر منه بعشرين عامًا على الأقل، كنا نتوق للقائه والاستماع إلى حكاياته عن الأدباء السوريين، ونوادرهم، ومقالبهم، ومعاركهم، ونقاط ضعفهم وقوتهم، لدرجة أننا نسينا أننا لا نستطيع مجاراته في المشي، فكنا نتعب ونعتذر وننسحب إلى الفندق الواحد تلو الآخر. وفي اليوم التالي، أخبرنا الأديب الصديق نيروز مالك أنه الوحيد الذي صمد معه حتى طلوع الفجر، معبرًا عن استمتاعه بالرحلة، لكنه أكد استحالة تكرارها!
مرة أخرى، في عام 2010، التقيت الكاتب الكبير زكريا تامر في دمشق. خلال السنوات التي سبقت الثورة، كنت أزور دمشق شهريًا وأقيم فيها بضعة أيام، وكنت أحرص على لقاء الأستاذ زكريا الذي كان يزور أحد أفراد أسرته، ونجلس لساعات طويلة في نادي الضباط. كان يحضر معنا الروائي غازي حسين العلي والفنان عبد القادر عبدللي. كنت أشجع الأستاذ زكريا على مرافقتنا بعرض لا يمكن رفضه: أن أقوم بتوصيله بسيارتي من مقر إقامته في مساكن قدسيا وإعادته إلى نفس المكان في نهاية السهرة. كانت متعتي في تلك اللقاءات لا تقدر بثمن، فزكريا، بالإضافة إلى روعة إبداعه القصصي، محدث بارع وذاكرة استثنائية، فما إن تذكر له اسمًا لأحد أدباء سوريا أو لبنان، حتى يبدأ بسرد حكايات عنه لمدة ربع ساعة متواصلة.
وقبل ذلك، خلال جلستنا في مطعم "النترون" في دمشق القديمة، دخل زكريا في حوار مع الكاتب محمد كامل الخطيب، الذي لا يقل عنه اطلاعًا وثقافة. وفاجأنا الأديب وليد إخلاصي بمعلومة طريفة للغاية، قائلًا: هل تعلمون أن زكريا تامر يعيد كتابة كل قصة من قصصه 50 مرة؟
تحية لزكريا تامر، وتمنياتي له بكل خير.