الأحد, 16 نوفمبر 2025 10:57 PM

ذاكرة دمشق العمرانية: رحلة موثقة مع الباحث عبد الرزاق معاذ في المكتبة الوطنية

ذاكرة دمشق العمرانية: رحلة موثقة مع الباحث عبد الرزاق معاذ في المكتبة الوطنية

دمشق، المدينة الأقدم في العالم، تروي منذ أحد عشر ألف عام حكايات عمرانها المتنوع، حيث تركت كل حضارة بصمتها الفريدة. هذا الإرث كان محور محاضرة ألقاها الدكتور المعماري عبد الرزاق معاذ في المكتبة الوطنية، موثقاً رحلة المدينة ككيان حضري حي يشهد على استمرار البناء والإبداع.

أوضح معاذ أن جمال عمران دمشق المتراكم من الآراميين حتى العثمانيين لا يزال يدهش الباحثين، مشيراً إلى أن هذه المحاضرة سبق أن قدمها في جامعة طوكيو ضمن مشروع لتوثيق تاريخ المدينة.

رحلة التوثيق ودور ابن عساكر

ذكر معاذ أن دراسته المنهجية للتاريخ العمراني بدأت قبل نحو أربعين عاماً، حين نشر بحثه عام 1985 في مجلة «التراث العربي» حول المؤرخين الذين وثّقوا الأوابد حتى نهاية العهد العثماني. وتوقف معاذ عند الحافظ ابن عساكر بوصفه مؤرخ دمشق الأبرز، إذ ألّف موسوعته «تاريخ دمشق» في نحو 80 مجلداً، وخصص أحدها للطبوغرافيا ومعالم المدينة، واعتُبر بمثابة صانع «الديكور المسرحي» لأحداث التاريخ، وقد حققه صلاح الدين المنجد، وترجمه نيكيتا إليسيف إلى الفرنسية مع شروح علمية جعلت منه مرجعاً رئيسياً لفهم جغرافية دمشق.

استعرض معاذ الأعمال الأوروبية الأولى حول دمشق في مطلع القرن العشرين، ثم انتقل إلى منهجية دراسة الأحياء مثل الصالحية والميدان باعتبارها نموذجاً للحياة الاجتماعية والاقتصادية المتنوعة، وتحدث عن حي ساروجة المهدد بالزوال والذي يحتفظ بخصائص دمشقية أصيلة، وأكد أن الأبحاث الحديثة تثبت أن النسيج العمراني الدمشقي ليس عشوائياً بل عضوي، تشكّل عبر قرون وفق حاجات المجتمع والبيئة.

من العصر الحجري إلى العصر الأموي

تُظهر المكتشفات الأثرية، وفق معاذ، وجود دمشق منذ العصر الحجري وورود اسمها في رقيمات إبلا في الألف الثالث قبل الميلاد، ثم أصبحت عاصمة لمملكة آرام ولاحقاً عاصمة الدولة الأموية، ما جعلها أقدم مدينة مأهولة بشكل متواصل في العالم. وأكد معاذ أن الجامع الأموي يشكل حجر الزاوية في عمران دمشق، ليس لجماله المعماري فحسب بل لدوره الديني والثقافي وتأثيره في تخطيط المدينة، مستشهداً بقول الوليد بن عبد الملك: «أردت أن أزيدكم خامسة، وهي هذا الجامع». وقد خضع الجامع لتحولات كبيرة عبر القرون وما يزال موضوعاً لبحوث حديثة في فرنسا وبريطانيا.

أوضح معاذ أن دمشق شهدت تحولات عمرانية ومعمارية كبرى منذ أواخر العصر الأيوبي حتى المملوكي والعثماني، ففي مطلع القرن السابع الهجري، غيّرت مشاريع تنظيمية واسعة ملامحها، أبرزها مشروع كافور الحُساني سنة 623 هـ لفتح طريق من ساروجة إلى الشيبانية، ما أدى إلى اختفاء أغلب الأوابد الأيوبية باستثناء التربة الحافظية وبعض المباني المحدودة.

النهضة مملوكية والتوسع في المرحلة العثمانية

بحسب معاذ، كان القرن الخامس عشر إحدى أزهى مراحل دمشق عمراناً واقتصاداً، فازدهرت فيه الحرف والتجارة وخاصة إنتاج الأقمشة الحريرية والمصنوعات اليدوية، وظهرت الأسواق والخانات، وامتد العمران خارج الأسوار إلى أحياء جديدة مثل ساروجة والسويقة، وتميز الطراز المملوكي بزخارفه الدقيقة كما في المدرسة الصابونية، وشُيّدت جوامع كبيرة مثل جامع يلبغا الذي هدم ما بين عامي 1968 و1975، ومئذنة جامع الورد الباقية اليوم.

ومع انتقال الحكم إلى العثمانيين، دخلت دمشق مرحلة جديدة من التوسع والازدهار، وبلغت ذروة نشاطها الاقتصادي والاجتماعي في القرن السادس عشر، وامتد عمرانها تدريجياً حتى وصل مطلع القرن العشرين إلى حدودها الحالية تقريباً، وعكست الأبنية العامة والعمائر السكنية حيوية المجتمع الدمشقي وارتباطه بالتطورات المعمارية في مدن الدولة العثمانية. واختتم معاذ محاضرته بالتأكيد على أن كتابة تاريخ دمشق ليست مهمة تأريخية أو أثرية فقط، بل مشروع إنساني ومعرفي يحتاج إلى تعاون باحثين محليين وعالميين للحفاظ على هوية المدينة.

يُذكر أن عبد الرزاق معاذ، من مواليد دمشق عام 1962، وهو باحث معماري متخصص في تاريخ العمارة والتراث، حاصل على دكتوراه من جامعة إكس-مرسيليا عام 1991، عمل أستاذاً زائراً في هارفارد، وشغل منصب المدير العام للآثار والمتاحف قبل مغادرته البلاد لمواقفه المناهضة للنظام البائد، وتركّز أبحاثه على العمارة الإسلامية والمدن الشرقية والحياة السكنية بدمشق وتأهيل المتاحف، كما شارك في توثيق التراث السوري، وهو ابن الفنان والباحث خالد معاذ الذي ترك أثراً في توجهه نحو قضايا التراث.

مشاركة المقال: