سيرغي يسينين: 100 عام على رحيل "كمان روسيا الحزين" وغموض وفاته بين الانتحار والاغتيال


هذا الخبر بعنوان "100 عام على رحيل سيرغي يسينين كمنجة روسيا الحزينة" نشر أولاً على موقع syriahomenews وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٨ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
تحرير وتصوير: د.إبراهيم إستنبولي
قبل قرن من الزمان، وتحديدًا في الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1925، ترددت كلمات مؤثرة كقصف الرعد في أرجاء روسيا، معلنةً عن أفول نجمٍ ساطع في سماء الشعر الروسي. كانت تلك الكلمات: "وَداعًا، صديقي، بِلا كلامٍ ولا سلامْ، لا تحزنْ ولا تُقطِّب حاجبَيك. ليس جديدًا أن نموتَ في هذهِ الدنيا، وأنْ نعيشَ، بالطبع، ليس جديدًا أكثر." لقد كانت هذه الأبيات آخر ما خطّه الشاعر الروسي الوسيم سيرغي يسينين، صاحب القصائد المفعمة بالروح الروسية، التي تعبق برائحة القرية وتزخر بلوحات السهوب والغابات الخلابة.
وصفه يفغيني يفتوشينكو بأنه "أكثر الشعراء روسيةً"، فقصائده لم تنبع من حفيف أشجار البتولا، ولا من نقر قطرات المطر على أسقف أكواخ الفلاحين الخشبية، ولا من صهيل الخيول في السهوب الضبابية صباحًا، ولا من تأرجح الأقاحي والأغاني المعلقة على أسيجة القرى الروسية، كما هي الحال في شعر يسينين. كانت حياته مزيجًا من الحنين والعشق والخيبات. ورغم استقباله للثورة البلشفية بإيجابية، إلا أنه ظل متمسكًا بهويته الروسية الأصيلة. وعلى الرغم من نجاحه الباهر وحظوته الكبيرة، بقي يحن إلى الروح الروسية الغنية بالجمال والبساطة، التي طالما تغنى بها في أشعاره. لكن روحه لم تستطع مقاومة الكآبة الشفيفة التي انتابته، مما دفعه، حسب الرواية الرسمية، إلى وضع حد لمعاناته بالانتحار.
إلا أن دراسات لاحقة، على مدى العقدين الماضيين، كشفت عن تناقضات مع ما أعلنته الدعاية البلشفية حول وفاة الشاعر. وقد كان هذا الجدل محور معرض للصور الفوتوغرافية أقيم في موسكو بعنوان "حياتي الطائشة..."، احتفالًا بمرور 110 سنوات على ولادة يسينين. هناك قرائن وأدلة قوية تشير إلى أن يسينين لم ينتحر، بل قُتل على يد المخابرات البلشفية. وتلقى هذه الفرضية قبولًا واسعًا في أوساط الرأي العام الروسي، أكثر من فرضية الانتحار الشائعة التي وردت في الأدبيات التاريخية الرسمية.
في مبادرة شخصية، قام المحقق إدوارد خليستالوف، من فرع الأمن الجنائي في موسكو، بإجراء تحقيق معمق في القضية على نفقته الخاصة، وأمضى سنوات عمره الأخيرة في محاولة لكشف الحقيقة. يُذكر أن الشاعر سيرغي يسينين وُجد ميتًا في الغرفة رقم خمسة بفندق "أنغليتير" بتاريخ 28 كانون الأول 1925. بعد خلع الباب، عُثر على جثته معلقة بحبل إلى أنبوب التصريف الصحي تحت السقف مباشرة. كما وُجدت على الطاولة ورقة كُتبت فيها تلك الكلمات التي افتتحت بها هذه المقالة. وتؤكد الرواية الرسمية أن الأبيات كُتبت بالدم، وهو ما أكده الشاعر الشاب آيرليخ، الذي كان من أوائل من دخلوا الغرفة.
لم يجرِ تحقيق رسمي في حينه، بل اكتفت سلطات المدينة بالتقرير الذي رفعه الشرطي المناوب في الحي، نيكولاي غاربوف. يبقى السؤال مطروحًا: من كانت له مصلحة في موت يسينين؟ كان يسينين يتجنب دائمًا الخوض في السياسة، وكانت حياته ملتهبة كالكحول المشتعل على الثلج. ويرى معارضو الفرضية الرسمية أن يسينين تم التخلص منه بسبب مشاعره وآرائه المعادية للسلطة السوفييتية وأشعاره ذات الطابع القومي.
جاء في ضبط الشرطة: "في دائرة الفرع الثاني للشرطة، في فندق "انترناسيونال"، انتحر عن طريق الشنق المواطن ديسينين سيرغي، 30 سنة. تم نقل جثته إلى مشفى البروفيسور نيتشاييف." حتى أن كنيته كُتبت بشكل خاطئ (ديسينين بدلًا من يسينين). ومن المعروف أن والدة الشاعر حضرت جنازته، وكانت ترغب في دفن الجثة وفقًا لتقاليد الكنيسة، وأن تذرو التراب بيديها على قبره على شكل صليب، ودعوة قس لإقامة صلاة الجنازة. لكن كل ذلك لم يُسمح به، وأقيمت له جنازة رسمية باهرة خالية من أية مظاهر دينية. ومع ذلك، أقام أهله وأقرباؤه الصلاة عن راحة روحه غيابيًا في مسقط رأسه، علمًا أنه لا تجوز الصلاة على من قضى منتحرًا.
هكذا انتهت مسيرة شاعر صاحب قلب مرهف وروح معذبة ورقيقة حدَّ اللامعقول، تمامًا كما هي رحبة وخلابة سهوب روسيا وغاباتها، وكما هي رقيقة نسمة ربيعية تعبر فوق الأرصفة وأشجار الصفصاف في مساء ساحر ولكنه كئيب. ومع ذلك، لتبقَ مباركة إلى الأبد تلك الليالي الليلكية في الأرض.
ثقافة
ثقافة
ثقافة
ثقافة