من طير البرية إلى شاشات العصر: 'لهاية الراعي' تحذير من إغراءات الإلهاء الرقمي


هذا الخبر بعنوان "لهّاية الراعي..!" نشر أولاً على موقع syriahomenews وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٨ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
يعود الكاتب مالك صقور، للمرة تلو الأخرى، إلى موضوع "لهاية الراعي" الذي ارتبط بطفولته البعيدة. ففي أيام الرعي بعد موسم الحصاد في الحقول الفسيحة، كانت والدته تحذره من اللعب بـ "صَلْي" الأفخاخ أو حفر "الطافوحة"، لكن تحذيرها الأشد كان من الاستسلام لـ "لهاية الراعي".
و"لهاية الراعي" أو "لهاية الرعيان" هو طير صغير من فصيلة "الدرغل"، يتميز بلونيه الأسود والرمادي. هذا الطير أليف جداً، يأنس للإنسان ويقترب منه. ولأن الراعي يقضي وقتاً طويلاً في البرية، فإن الطير يأتي إليه ويحط على مقربة منه، وكأنه يطلب الأنس أو التسلية في هذه البرية المقفرة، أو كأنه يريد أن يحدثه.
لكن الراعي، ما أن يرى هذا الطير على بعد شبر أو فتر من حذائه، حتى تستيقظ فيه غريزة الصيد الأولى، فيهّم بالتقاطه. يبقى الطير ينظر إليه بلا حركة، حتى تكاد يد الراعي أن تمسك به، فيفر حالاً لكن لا يبتعد أكثر من شبر واحد، ويعود لينظر إلى الراعي وكأن شيئاً لم يكن. يعاود الراعي المحاولة بإمساك هذا العصفور الذي يبدو أنه يحب أن يلاعبه. وفي كل مرة، يكاد الراعي أن يقبض عليه، لكن الطير أسرع منه، فيقفز خطوة وأقل، دون أن يبتعد عن قدمي الراعي.
يستمر الطير بإغراء الراعي بالاستكانة والقرب، والراعي يصدق هذا الإغراء فيجري خلفه خطوة فخطوة دون جدوى، حتى يمضي الوقت بسرعة وكأن الطير يلاعب الراعي. وما أن يلتفت الراعي إلى الوراء حتى يصاب بالذعر، لأنه يدرك أنه قطع مسافة طويلة، وقد تفرق القطيع، واقتحم مزروعات مجاورة مسبباً أضراراً بها، أو تعرض لهجوم ذئب أو ضبع أو ثعلب أو حرامي. فيعود راكضاً لاهثاً يجمع ما يستطيع من القطيع قبل المغيب. وعلى الرغم من معرفة الرعيان بهذه "اللّهاية"، إلا أن إغراءها له سطوة ليس من السهل الانعتاق منها.
في هذه الأيام، لم تعد هناك سهول فسيحة للرعي، ولا قطيع من الماشية كما كان في الأيام الخوالي. لذا، انتقلت "لهاية الراعي" إلى البيوت، وليس بوسع أحد أن يوصي أولاده بعدم الاستسلام لهذه "اللهّاية"، لأنها تغري الكبار والصغار على حد سواء. ففي الركن الأرحب في البيت يقبع الكمبيوتر أو اللابتوب، والتلفاز يحتل الصدارة في الصالون أو في غرفة الجلوس. ويحذر الكاتب من الاستسلام لهاتين "اللهّايتين".
بما أن عصرنا هو عصر المعلوماتية بامتياز، وعصر الاتصالات والسوشل ميديا، فإن عاقلاً أو واعياً لن يقف ضد "ثورة" المعلوماتية ومشتقاتها وتوابعها، أو ضد هذا التطور العاصف الذي حول الكرة الأرضية برمتها إلى "قرية كونية صغيرة" تستطيع أن تسمع أخبارها من الجهات الست بلحظة واحدة وتشارك برأيك وتعلق ما شئت بكل حرية. وهذا كله من فضل الله، فمن يقف ضد العلم إلا الجاهل، والكمبيوتر له إيجابيات لا تُعد ولا تُحصى وهو علم، ومن يقف ضد التطور والعلم إلا الجاهل والمتخلف؟
هذا العلم وهذا التطور جيد جداً لمن يحسن استخدامه ويستفيد منه ويستثمره إيجابياً. لكن هناك أغلبية ساحقة تحول الكمبيوتر إلى أداة للتسلية والألعاب أو عرض الأفلام الوضيعة المنحطة والإباحية، والطرب الذي يفسد العقل والذائقة الفنية ويشوه الذوق. بالإضافة إلى ذلك، يتم دسّ المعلومات الخاطئة والكاذبة التي تتلقفها عقول الأجيال الشابة التي ليس لديها العمق المعرفي والثقافي الكافي لتمييز الصحيح من الخطأ.
وهكذا، دخلت "لهاية الراعي"، بل سرب من اللهايات، إلى كل بيت بأسلوب عصري وتحت غطاء الحاجة والضرورة. وهذا ما نبه إليه الأمريكي هربرت شلر تحت عنوان: "التلاعب بالقلوب والعقول"، وكذلك حذر منه روجيه غارودي في كتابه: "ثقافة اللامعنى".
وإذا كان جيلنا قد اكتسب شيئاً من المناعة البدنية والثقافية، فإن الأجيال الناشئة معرضون لنقص المناعة البدنية والثقافية. ومن المؤكد أن الأطفال بعد سنوات قليلة سيصبحون مثل الضفادع: أدمغة منتفخة فارغة من الإدمان على النظر في الهواتف المحمولة والكمبيوترات ذات الإشعة القوية النافذة، وعيون جاحظة وأيدٍ وأصابع نحيلة ضعيفة لعدم العمل. فما العمل؟ (موقع: أخبار سوريا الوطن)
ثقافة
ثقافة
ثقافة
ثقافة