السبت, 6 سبتمبر 2025 01:03 AM

رحيل سعدون حمادة: المؤرخ المقاوم الذي أعاد كتابة تاريخ لبنان بوثائق لا تقبل التزوير

رحيل سعدون حمادة: المؤرخ المقاوم الذي أعاد كتابة تاريخ لبنان بوثائق لا تقبل التزوير

برحيل الكبار، يغادر معهم زمن من الذاكرة والبحث والمعاناة. في الأول من أيلول (سبتمبر) 2025، رحل المؤرخ الأكاديمي سعدون حمادة عن عمر ناهز الثانية والثمانين، تاركاً إرثاً يخلّده.

طفولة على ضفاف العاصي

خرج سعدون حمادة، ابن الهرمل، من بيئة جبلية صعبة، لكنها غنية بعنفوان أهلها. بين ضفاف العاصي وسهول البقاع الشمالي، نشأ على أرض متعطشة للعدالة، ومجتمع مهمش، لكنه عصي على الانكسار. هذه البيئة زرعت فيه الإصرار على إعادة كتابة تاريخ قومه وإعادة صوتهم المسلوب.

ولد سعدون حمادة في الهرمل، وعاش طفولته في كنف عائلة تقدر الكرامة. لم يكن طريقه سهلاً، لكن تلك التجربة جعلت منه رجلاً صلباً. منذ صغره، كان يميل إلى التاريخ، ويسأل أسئلة عن سبب غياب منطقته عن الكتب، ولماذا لا يُذكر أجداده إلا قليلاً. هذه الأسئلة كانت وقوداً لرحلته الطويلة.

روايته الجديدة لتاريخ لبنان

درس سعدون حمادة التاريخ والقانون الدولي في السوربون بفرنسا. عاد إلى لبنان برؤية لإعادة قراءة تاريخ لبنان، والبحث في الأرشيفات العثمانية والأوروبية والكنسية للكشف عن الحقائق المخفية.

أدرك أن الطريق لن يكون سهلاً، فهو يفتح جروحاً قديمة. في إسطنبول، غاص في دفاتر النفوس العثمانية والفرمانات الرسمية. في مكتبات أوروبا، قلب أوراق القناصل. وفي الأديرة والكنائس، قرأ المخطوطات. جمع حوالي 845 وثيقة، صارت أساس روايته الجديدة لتاريخ لبنان.

نتائج بحثه كانت صادمة، حيث قلبت ما اعتاد القارئ أن يراه في كتب المدرسة. استناداً إلى الوثائق، قال حمادة إن الشيعة في القرن السابع عشر كانوا مكوناً أساسياً في لبنان، وربما الأكبر.

في دفتر النفوس العثماني لعام 1686، كان عدد السكان 256746، بينهم 98 ألف شيعي (38%)، و76 ألف سني (30%)، و44 ألف مسيحي (18%)، و35 ألف درزي (13%). هذه أرقام رسمية وردت في دفاتر الدولة العثمانية.

دور الشيعة لم يكن هامشياً

أكد حمادة أن دور الشيعة في لبنان لم يكن هامشياً، بل كانوا حكاماً في مناطق واسعة. وفي إحدى المراحل، كان الحاكم الشيعي هو الذي يثبت البطريرك الماروني في موقعه. وثيقة تشير إلى أنه اشترط عليه الالتزام بشرع النبي محمد والإمام علي. هذه الوقائع تعيد رسم صورة العلاقات بين الطوائف.

ثورة 1685

كشف حمادة عن ثورة عام 1685، التي انطلقت من جبل لبنان (بلاد سرحان) ثم امتدت إلى جبل عامل والبقاع. كانت ثورة ضد السلطة العثمانية بقيادة سرحان، واستمرت حتى عام 1710، وهدفت إلى حكم الشيعة أنفسهم والامتناع عن دفع الضرائب. أُطلق عليها اسم «جمهورية العصاة الحرة» حتى عام 1760.

تزوير معركة عنجر الشهيرة

كشف حمادة كيف جرى تزوير معركة عنجر الشهيرة، حيث أثبت أنها كانت بين العثمانيين والأمراء الحرافشة بقيادة الأمير منذر الحرفوش، وأن فخر الدين نفسه قاتل إلى جانب العثمانيين. هذه النتيجة تدعمها وثائق عثمانية وتقارير قناصل فرنسيين.

مؤرّخ الوثائق

كان حمادة مؤرخاً للوثائق، يسعى إلى النص الأصلي والأرشيف. لهذا السبب كانت أبحاثه صادمة ومقنعة.

إلى جانب أبحاثه، أصدر حمادة مؤلفات بارزة، مثل كتابه «تاريخ الشيعة في لبنان» الذي نال «الجائزة العالمية للكتاب» في طهران عام 2015 ونشرته جامعة يال الأميركية.

مقاوم من نوع آخر

كان سعدون حمادة مقاوماً بالقلم والوثيقة، وجعل من إعادة كتابة التاريخ شكلاً من أشكال المقاومة. كان يرى الوثائق كنوزاً حية تكشف حقيقة حاولوا إخفاءها.

برحيله، وصفه «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» بالمؤرخ الكبير. لقد أعطى للهرمل وللبقاع وللشيعة في لبنان صوتاً مسموعاً.

حمادة لم يكن فقط مؤرخاً، بل رمزاً من رموز المقاومة، لأنه قاوم النسيان والطمس.

اليوم، نودعه ونشعر بفراغ كبير، لكنه يترك إرثاً لا يموت: كتبه، أبحاثه، وثائقه، وطريقته في النظر إلى التاريخ. ترك لنا وصية مفتوحة لمواصلة ما بدأه.

سعدون حمادة سيبقى اسمه محفوراً كمؤرخ لم يكتب ما يريده الحاكم، بل ما قالته الوثائق. وسيظل الرجل الذي حمل الهرمل في قلبه، ولبنان كله في عقله.

مشاركة المقال: