الإثنين, 22 سبتمبر 2025 12:28 PM

جريمة البايجر في لبنان: هل هي صدمة مجتمعية أم انعكاس لفقدان القيم الإنسانية؟

جريمة البايجر في لبنان: هل هي صدمة مجتمعية أم انعكاس لفقدان القيم الإنسانية؟

تشكل الصدمات المجتمعية، كما حدث في النكبة وحروب لبنان وفلسطين وصولاً إلى جريمة البايجر، منعطفات حاسمة تعيد تشكيل الهوية والذاكرة الجماعية. هذه الأحداث تكشف مدى صلابة المجتمعات أو هشاشتها، وتظهر الانقسامات أو التضامن. وتثير هذه الجريمة تساؤلات عالمية حول مخاطر التكنولوجيا عندما تنفصل عن القيم الإنسانية.

الصدمات المجتمعية هي مسار طبيعي في حياة الشعوب، وليست مجرد أحداث عابرة. إنها لحظات فارقة تعيد صياغة الذاكرة الجمعية وتترك آثارها على الأفراد والجماعات. فالمجتمعات لا تبنى فقط بالانتصارات، بل أيضاً بمواجهة الأزمات والمجازر والهزائم، حيث تكشف هذه اللحظات عن طبيعتها الداخلية وقدرتها على الصمود أو الانكسار.

في السياق العربي، تعاقبت الصدمات منذ النكبة عام 1948 مروراً بالنكسة وحروب لبنان وفلسطين. هذه المحطات خلقت ذاكرة مثقلة بالألم، ولكنها حفزت أيضاً الهوية والمقاومة.

في قلب هذا المسار، جاءت جريمة البايجر في لبنان لتفتح جرحاً جديداً، ولكن بأسلوب مختلف. لم تكن صدمة ناتجة عن سلاح ظاهر، بل عن أداة تكنولوجية صغيرة كان من المفترض أن تخدم الحياة اليومية. إنها مفارقة قاسية: وسيلة تواصل تتحول إلى أداة موت، لتكشف عن عمق الأزمة النفسية والاجتماعية وحجم الانحطاط القيمي في زمن الذكاء الاصطناعي وفيزياء النانو.

منذ فجر التاريخ، ارتبطت حياة الشعوب بصدمات كبرى، طبيعية كانت أو من صنع الإنسان. الصدمة ليست مجرد مأساة، بل قوة تغيير جذرية تعيد صياغة رؤية الناس لأنفسهم وللعالم. وبينما تؤدي الصدمات الفردية إلى انهيار داخلي أو علاج خاص، تنعكس الصدمات الجماعية على الهوية المشتركة للمجتمع، وتعيد تشكيل شبكات التضامن أو العداء.

المجتمعات المتماسكة تحول الصدمة إلى قوة دافعة، بينما المجتمعات الهشة تنزلق إلى التفكك والاتهامات المتبادلة. لبنان مثال معقد: بلد متنوع طائفياً وسياسياً، يتأرجح دائماً بين لحظات تضامن وطني نادرة ولحظات انقسام عميق. وهكذا، تصبح جريمة البايجر اختباراً جديداً لطبيعة المجتمع اللبناني وقدرته على التماسك.

عندما تدخل الصدمات الذاكرة الجمعية، لا تبقى مجرد وقائع، بل تتحول إلى مراجع تأسيسية للوعي الجمعي. يتم ذلك عبر الطقوس الجماعية والرموز والصور والسرديات الإعلامية والتناقل الشفهي. ولكن في لبنان، غالباً ما تترسخ الصدمات داخل ذاكرة طائفية خاصة، بدلاً من أن تتحول إلى ذاكرة وطنية مشتركة.

من هنا، تبدو جريمة البايجر مرشحة للدخول بقوة في الذاكرة الشيعية، حيث ستقرأ ضمن خط تاريخي ممتد من المظلومية والمقاومة. لكنها أيضاً ستترك بصماتها في الذاكرة اللبنانية الأوسع، وإن بقراءات متباينة ومتعارضة.

لم يُستقبل الحدث برد فعل واحد. فقد عبر كثيرون عن صدمتهم وتعاطفهم مع الضحايا باعتبارها مأساة إنسانية، بينما برزت في المقابل أصوات شامتة رأت فيها عقاباً أو فرصة للتشفي. هذا التباين يعكس أزمة القيم المشتركة في لبنان، حيث يغدو الدم مادة للاستقطاب السياسي بدلاً من أن يكون موضع إجماع إنساني.

وفقاً لنظرية الهوية الاجتماعية، يُظهر هذا الانقسام كيف تعزز الصدمات الحدود بين الجماعات بدلاً من أن تذيبها. فالتعاطف يرتبط بالقدرة على التماهي الإنساني، بينما الشماتة تعكس آليات دفاعية مبنية على ثنائية "نحن" و"هم". لكن خطورة الأمر أن هذه المواقف تترك ندوباً طويلة الأمد، إذ تضاف ذاكرة الشماتة إلى ذاكرة الجريمة نفسها، ما يعمق الشرخ الاجتماعي ويجعل المصالحة أصعب.

البيئة الشيعية في لبنان تمتلك رصيداً ثقافياً ودينياً يجعلها أكثر قدرة على تحويل الصدمات إلى رموز جماعية. فالمخيال العاشورائي يمنح المظلومية معنى يتجاوز الخسارة الفردية، ويحول الضحايا إلى "شهداء" في سردية المقاومة. كذلك، توفر قوة الروابط العائلية والقرابية والمؤسسات الاجتماعية شبكة دعم تعزز الصمود.

لذلك، واجهت هذه البيئة جريمة البايجر ليس بالانكسار، بل بآليات نفسية واجتماعية تمكنها من دمج الجرح في هوية جماعية صلبة، تتقن فن تحويل الألم إلى قوة تعبئة.

وراء البعد اللبناني، تطرح جريمة البايجر سؤالاً أوسع: ماذا يعني أن تتحول أداة تكنولوجية يومية إلى قنبلة موقوتة؟ يفترض أن يخدم العلم الإنسان، لكن حين ينزع عنه بعده الأخلاقي، يغدو رمزاً لانحطاط البشرية بدلاً من تقدمها.

المجزرة إنذار مبكر لعصر قد تصبح فيه الحياة اليومية محاطة بتهديدات غير مرئية. فإذا كان البايجر قد حمل الموت في داخله، فما الذي قد تفعله أدوات الذكاء الاصطناعي أو النانو في حروب المستقبل؟ إنها رسالة واضحة: العلم بلا قيم لا يصنع حضارة، بل يفتح أبواب التوحش بأشكال أكثر دقة وخفاء.

أثبتت جريمة البايجر أن الصدمات ليست مجرد وقائع أمنية، بل لحظات تكشف عن عمق البنية النفسية والاجتماعية للمجتمعات. لقد وضعت اللبنانيين أمام مرآة أنفسهم: بين التعاطف والشماتة، بين التماسك والانقسام. وفي الوقت نفسه، طرحت على البشرية جمعاء سؤالاً وجودياً عن العلاقة بين التقدم العلمي والضمير الإنساني.

إنها ليست جريمة محلية فقط، بل جرس إنذار عالمي: إذا لم يرافق التقدم العلمي نظام قيمي يحمي الإنسان، فإن المستقبل سيكون أكثر قسوة من الحاضر. والسؤال الذي يظل مفتوحاً: هل تستطيع البشرية إعادة بناء منظومة قيم تحفظ إنسانيتها، أم أنها دخلت بالفعل زمن "ما بعد القيم" حيث تستباح الكرامة الإنسانية بلا رادع؟

مشاركة المقال: