حسين عبدالرحيم: قالت الكاتبة المصرية سهير عبد الحميد إن كتابها/ الرواية الأخير "يهود الظاهر" يهتم بالتأريخ الاجتماعي ليهود مصر بعدما ركزت في كتابها السابق "ناحوم أفندي" على التأريخ السياسي، وهما جانبان يكمل أحدهما الآخر ويسدان ثغرة موجودة في الكتابة عن تاريخ اليهود المصريين.
وردت الكاتبة التي عُرفت بانتقادها لـ"ثورة 23 تموز/ يوليو" على اتهامها بالدعوة إلى إحياء الملكية، معتبرة أن تلك المرحلة مشوّهة، ولذلك اتجهت بأبحاثها التاريخية نحوها.
الكاتبة والروائية المؤرخة عبد الحميد، هي أيضاً مديرة تحرير في جريدة "الأهرام المصرية"، صدر لها "قصور مصر"، "إسكندرية من تاني"، "اغتيال قوت القلوب الدمرداشية"، "على عتبة المقام"، "سلسال الباشا"، "ناحوم أفندي"، والكثير من المقالات التي نشرت في العديد من المواقع، العالمية والعربية والمصرية.
وأثبتت من خلال رواياتها أن هناك تفاصيل أخرى حجبت من التاريخ المصري، وخاصة ما قبل ثورة 1952 وما هو مخبوء، مراهنة على تصحيح تاريخ مصر ما قبل تموز وما بعده.
في هذا الحوار "الشائك" تتحدث الكاتبة إلى "النهار":
كل كتاباتك تدور في فلك رفض 23 تموز/يوليو 1952 وتمجيد الحياة ما قبلها، بداية من كتابك "قصور مصر" مروراً بكتابك "سلسال الباشا" حتى كتابك الأحدث "يهود الظاهر".. فهل منبع ذلك موقف شخصي أم هو موقف عام منحاز إلى التاريخ؟
سهير عبد الحميد: ليس موقفاً شخصياً على الإطلاق؛ فلست من أسرة إقطاعية خسرت أموالها بفعل التأميم، وليست لي أيّ خصومة مع نظام سياسي بعينه أو حقبة زمنية بذاتها، بل المسألة تعود إلى مجلدات قديمة صفراء الأوارق عثرت عليها في بيتنا وكنت في سنّ صغيرة وما زلت أتلمّس طريقي في عالم القراءة. كانت تلك المجلدات لمجلة فنية كان جدي لأمي يصدرها في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، وكأي رئيس تحرير كان يكتب افتتاحية سياسية، ومنها سلسلة مقالات بعنوان "الثورة البيضاء".
في بادئ الأمر لم أستوعب الكثير من سطور تلك المقالات، ومع الوقت عدت إليها أكثر نضجاً ووعياً ثم برؤية نقدية جعلتني أتفق مع جدي وأختلف معه؛ بداية من مفهوم 23 تموز كثورة، فقد كانت تلك الحركة انقلاباً عسكرياً على الملك فاروق، ولم يكن من عرفوا أنفسهم باسم "الضباط الأحرار" يستهدفون إلغاء الملكية، بل كان جُلّ حلمهم – كما اعترفوا في ما بعد بأنفسهم – خلع الملك فاروق ليحل محله ابنه الرضيع فؤاد، لكن السهولة التي ترك بها الملك فاروق العرش سوّلت لهم في أنفسم أمراً آخر. وثانياً، اتفق أن أحداث 23 تموز لم تسل فيها الدماء كما حدث في الثورة الفرنسية 1789 التي أغرقت شوارع باريس بدماء الملكيين والإقطاعيين والنبلاء ممّن اجتثت رؤوسهم المقاصل من دون محاكمات.
لكن 23 تموز كانت لها مقاصلها التي تجسّدت في قرارات التأميم المتخبطة التي نالت من رموز وطنيين أمثال الموسيقار محمد فوزي الذي أسّس أول شركة وطنية للأسطوانات فقضى على احتكار الأجانب لتلك الصناعة، وأمثال الشبراويشي الذي رسّخ صناعة رائدة في مجال العطور حتى عرفت بعض التركيبات الخاصة به في فرنسا، إضافة إلى ما نال الحجر وتراثنا المعماري من سطوة المصادرة وانتهاك حرمة القصور الفخمة وتحويلها إلى مبانٍ حكومية. ثم تمثل الجرم الأكبر في محاولة تزييف التاريخ ومحاولة محو 150 عاماً كاملة من التاريخ المصري تحت شعار "العهد البائد".
هل يمكننا القول إن تاريخ ما قبل 23 تموز/يوليو لم يُكتب بعد؟
سهير عبد الحميد: بالتأكيد، فما كُتب هو وجهة نظر النظام السياسي القائم، أي إنه تاريخ وفق هوى السلطان، ولهذا اتجهت معظم دراساتي التاريخية إلى تلك الحقبة المشوّهة رغم ما ألاقيه أحياناً من انتقادات تتهمني بالدعوة إلى إحياء الملكية، وهي اتهامات ساذجة لا أعيرها انتباهاً، فحينما أعدت قراءة سيرة أمراء الأسرة العلوية وأميراتها وكتبتها في كتابي "سلسال الباشا" إنما نظرت إلى هؤلاء بعين الإنصاف والموضوعية وعرضت مجهوداتهم في بناء المجتمع المصري على الصعد كافة، ويكفي أن جامعة القاهرة لم تكن لتكون لولا الأميرة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل، ولم يكن لنا أن نعرف المثّال العظيم محمود مختار وغيره من فناني مصر العظام لولا الأمير يوسف كمال الذي أسّس كلية الفنون الجميلة.
هل يمكننا القول أيضاً إن تاريخ 23 تموز لم يُكتب هو الآخر برؤية نقدية سليمة؟
سهير عبد الحميد: أتفق تماماً، لسبب بسيط هو أن وثائق تلك "الثورة" أو الحركة تفرّق دمها بين القبائل؛ فكل من كان قريباً من دوائر السلطة حينئذ احتفظ بعدد من تلك الوثائق فخفي الكثير من الأمور. ثم إنك كلما ابتعدت عن الأحداث كانت لديك القدرة أكثر على نقدها وتحليلها وفق رؤية موضوعية لا تخشى سيف المعز ولا تطمع في ذهبه.
في رأيك، ما أكثر الأخطاء التي قد يرتكبها الباحث التاريخي عند قراءة الأحداث التاريخية؟
سهير عبد الحميد: أن تكون لديه آراء مسبقة ومواقف جاهزة تمنعه من الإنصاف وأن تكون لديه نظرة أحادية للأمور وعدم القدرة على تفهّم النفوس البشرية وتناقض مواقفها أحياناً ومشاكلها النفسية؛ فعلى سبيل المثال، لا يمكننا اتهام الملكة نازلي بالفساد والرعونة هكذا على الإطلاق من دون أن نتطرق إلى ما عانته في حياتها مع زوجها الملك فؤاد الذي عاملها بقسوة وإهانة وعرفت معه أقصى درجات الحرمان كأنثى، ولذا أقول دوماً إن الباحث عليه أن يتعامل مع شخوص التاريخ بوصفهم بشراً يصيبون ويخطئون، فهم ليسوا إما ملائكة أو شياطين، وهو ما يعني نفي سمة الأسطورية ونحن نتناول تلك الشخوص .
من الأسس المهمة أيضاً عند الكتابة التاريخية ألا يعتنق الباحث مسلّمات وضعها من سبقوه؛ فكلّ شيء قابل للتحليل وإعادة النظر .
هل تعتقدين إذن أن التاريخ المصري والعربي عموماً في حاجة إلى إعادة قراءة؟
سهير عبد الحميد: التاريخ دوماً في حاجة إلى إعادة قراءة؛ فكلّ نقش يُكتشف وكل وثيقة يُعثر عليها وكل قطعة أثر تكشف عنها الرمال، قد تغيّر من معلومة سادت وحقيقة توغلت؛ فعلى سبيل المثال اكتشاف بردية وادي جرف في مصر أثبت نظرية استخدام فروع النيل في نقل الحجارة لبناء الهرم الأكبر، واكتشاف مقابر العمال في الجيزة وما ضمّته من وثائق عن النظام الصحي والغذائي للعمال ينفي تماماً مقولات أن الأهرام بُنيت بالسخرة أو أن كائنات من الفضاء الخارجي قامت ببنائها وغيرها من الأكاذيب التي روّجت لها الصهيونية عبر هوليوود ومنها أن بني إسرائيل هم من بنوا الأهرام.
في كتابك الأحدث "يهود الظاهر" شكلت علاقتك بحيّ الظاهر الذي وُلدتِ وعشت فيه الركيزة الأساسية في السطور؛ فإلى أيّ مدى تمثل علاقتك بالمكان بوصلة في تناولك للتاريخ؟
سهير عبد الحميد: التاريخ هو ملخص حياة البشر في حيز مكاني وزماني، وعبق التاريخ هو خلاصة هذا الثالوث… وكما شكلت الجمالية هاجساً روائياً لم يفارق أديبنا نجيب محفوظ فجاءت روايته وثيقة للتاريخ عن الجمالية وناسها وأنماط الحياة الاجتماعية فيها. في كتابة التاريخ، المكان محور أساسي ومدخل ثري لدراسة أحداث بعينها وتغيرات اجتماعية وثقافية، وهذا ما حدث في "يهود الظاهر"، فقد اتخذت من الحيّ وبناياته محوراً تناولت من خلاله كيف كانت مصر قبلة كل الأجناس التي تجمّعت فئة كبيرة منها في هذا الحيّ.
كذلك عرجت على التوسع العمراني وتغير سمة الأحياء التي كانت سكناً للأمراء والباشوات لقربها من قصر القبة، مثل حي الظاهر الذي ما لبث أن تحول إلى وجهة لأبناء الطبقة المتوسطة.
ثم كان تناول تاريخ اليهود في مصر من خلال هذا الحي الذي احتضن اليهود القرائين، وهم الذين لا يعترفون بالتلمود ويشبهون المسلمين في كثير من الطقوس، كالاغتسال قبل الصلاة والركوع والسجود وخلع النعال قبل الدخول إلى المعابد.
وقد اهتم الكتاب ببيان حالة التعايش العجيبة التي سادت مصر حتى أربعينيات القرن الماضي قبل أن تنشب الصهيونية مخالبها في جسد المجتمع المصري فتفتته .
ألم تكن تلك الفكرة مطروحة في كتابك السابق "ناحوم أفندي… الحاخام الأخير ليهود مصر"؟
سهير عبد الحميد: كتاب "يهود الظاهر" اهتم بالتأريخ الاجتماعي ليهود مصر بينما ركز كتاب "ناحوم أفندي" على التأريخ السياسي، وهما جانبان يكمل أحدهما الآخر ويسدان ثغرة موجودة في الكتابة عن تاريخ اليهود المصريين. والكتابان أردت بهما إلقاء حجر في الماء الراكد والتعامل مع التاريخ بموضوعية وشفافية وإزالة الأسلاك الشائكة التي تمنعنا من الاقتراب أو تصوير بعض الأحداث التاريخية، إما لحسابات سياسية كخشية أن يفهم ذلك خطأً في ظل الأزمة التي لا تنتهي في الشرق الأوسط والجرائم التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني وأصحاب تلك النظرة الضيقي الأفق، فحين أتناول تاريخ اليهود المصريين فنحن نتعرّض لتاريخ مواطنين لم يؤمن جميعهم بالصهيونية أو يدعوا إليها فقد كان من بينهم من رفض الانصياع لها بل قاومها بشراسة.
تلك النظرة الضيقة في تناول التاريخ يروّج لها أشخاص يرفضون النقاش ويفضّلون الإبقاء على مسلّمات مشوّهة من باب المشي إلى جوار الحائط؛ وقد عانيت من تلك النظرة السطحية كثيراً في عالم الصحافة في ظل رؤية عرجاء لمشاهير التاريخ بوصفهم قديسين منزهين عن النقص، حتى وصل بعضهم إلى حد إنكار أن مصر استعانت بمحامٍ إنكليزي في هيئة الدفاع عن طابا رغم أن هذا مثبت تاريخياً لأن مصر على حد ما ذكره نبيل العربي في مذكراته لم تكن فيها خبرات متخصصة في النزاعات الحدودية، فحدود مصر اتسمت بالثبات عبر التاريخ. وكان سبب الإنكار ألا يقال إن إنكليزياً ساعدنا في استرداد طابا. هذه السطحية في تناول التاريخ لا تنمّي وعياً بل تجرّنا جرّاً إلى كهوف التغييب والجهل.
لكن أعتقد أن هناك اهتماماً متزايداً في السنوات الأخيرة بالكتابات التاريخية؟
سهير عبد الحميد: هناك كم كبير لكن الأهم الكيف، فهناك فئة من الكتابات تندرج تحت فئة كتب الحواديت التي لا تستوثق المعلومة ولا تتبنى وجهة نظر ولا تقدم حقيقة جديدة وتنفي معلومة خاطئة، بل هى تضم مجموعة من القصص للتسلية، وهناك كتابات ينقصها تطبيق آليات المنهج البحثي في الكتابة التاريخية من توثيق المصادر وتنوعها وعرض المعلومات بطريقة نقدية تحليلية.
في كتابك "على عتبة المقام" رؤية بانورامية للحياة الروحية في مصر منذ فجر التاريخ حتى عصرنا الحالي… كيف قُدّر لك الإلمام بكل هذه العقود من التاريخ؟
سهير عبد الحميد: التاريخ مجموعة من الحلقات المترابطة لا يمكنك أن تهمل إحداها لمصلحة الأخرى. صحيح أنك قد تتعمّق في دراسة إحداها لكن عليك أن تقرأها جميعها وتفك شيفرتها، فنحن لن نفهم التاريخ القبطي إلا إذا درسنا التاريخ المصري القديم واستوعبنا قدر تأثر الأول بالثاني حتى أضحى القنطرة التي حفظت لنا الكثير من التراث المصري القديم. ولن تستطيع دراسة تاريخ الحملة الفرنسية على مصر إلا إذا درست مصر في العصر العثماني.
وإجمالاً لن نتمكن من فهم الشخصية المصرية إلا إذا استوعبنا كل ما سبق من قرون وكل ما ولّى من تاريخ.