الثلاثاء, 14 أكتوبر 2025 09:12 AM

سوريا على أعتاب مرحلة اقتصادية جديدة: رفع العقوبات والانفتاح الدولي

سوريا على أعتاب مرحلة اقتصادية جديدة: رفع العقوبات والانفتاح الدولي

تشهد سوريا منذ بداية تشرين الأول/أكتوبر الجاري تحولات اقتصادية وسياسية متسارعة، مما يعكس بداية مرحلة جديدة من الانفتاح الدولي بعد سنوات من العقوبات والحصار التي أثرت على الاقتصاد وعرقلت التنمية. بالتزامن مع الإعلان الرسمي عن البدء التدريجي لرفع العقوبات، تجري نقاشات دولية في صندوق النقد والبنك الدولي حول مستقبل الاقتصاد السوري، مما يشير إلى عودة الاهتمام العالمي بملف سوريا الاقتصادي.

داخلياً، ترافقت هذه التطورات مع انتخابات مجلس الشعب الأخيرة وما صاحبها من نقاشات حول الإصلاحات الاقتصادية والمالية، مما يؤكد دخول البلاد مرحلة جديدة من الاقتصاد السياسي، حيث لا يمكن فصل القرارات الاقتصادية عن التحولات السياسية. يبدو أن سوريا تتحرك نحو إعادة صياغة موقعها في النظامين الإقليمي والدولي، من خلال الجمع بين الاستقرار السياسي والانفتاح الاقتصادي، مما يمهد الطريق لمرحلة عنوانها الأبرز: إعادة البناء والانخراط في الاقتصاد العالمي.

أولاً: رفع تدريجي للعقوبات وبداية سياسة مالية جديدة

في العاشر من هذا الشهر، أعلن وزير المالية السوري محمد يسر برنية أن البلاد دخلت "المراحل الأخيرة من رفع العقوبات الاقتصادية" بعد سنوات من الحصار، مشيراً إلى أن إلغاء قانون قيصر بات قريباً بعد تصويت مجلس الشيوخ الأميركي على مادة في موازنة وزارة الدفاع تتضمن إلغاءه. ووصف الوزير هذا التطور بأنه "نجاح للدبلوماسية السورية"، مما يشير إلى أن المسار السياسي كان المدخل الأساسي لتغيير البيئة الاقتصادية.

رفع العقوبات لا يعني فقط عودة التعاملات المالية، بل يشير إلى إعادة دمج سوريا في النظام المالي العالمي بعد عزلة استمرت أكثر من عقد. التواصل مع مؤسسات مالية كبرى مثل "ماستر كارد" وبنوك أوروبية يعكس استعداداً دولياً للتعامل مع دمشق، مما يفتح الباب أمام تدفقات استثمارية محتملة في قطاعات البنية التحتية والطاقة والخدمات المصرفية.

الأهمية الحقيقية تكمن في أن رفع العقوبات يغير قواعد اللعبة داخلياً وخارجياً. داخلياً، يمنح الحكومة فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد وتحسين قيمة العملة الوطنية وتخفيف الأعباء المعيشية. أما خارجياً، فيرسل إشارة إلى أن المجتمع الدولي مستعد للتعامل مع سوريا كطرف فاعل في الاقتصاد الإقليمي.

لكن هذا التحول يضع دمشق أمام تحديات جديدة: فعودة الانفتاح المالي تعني الحاجة إلى إصلاحات هيكلية في النظام المصرفي، وتعزيز الشفافية، وضبط السياسات النقدية بما يتماشى مع المعايير الدولية. رفع العقوبات ليس نهاية المطاف، بل بداية لمسار طويل يتطلب إدارة دقيقة للتوازن بين الانفتاح الاقتصادي والحفاظ على السيادة الوطنية.

ثانياً: النقاشات الدولية في صندوق النقد والبنك الدولي

في الثالث عشر من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، خُصصت جلسة ضمن الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدولي في واشنطن لمناقشة مستقبل الاقتصاد السوري تحت عنوان: "إعادة بناء سوريا.. مسار نحو الاستقرار والازدهار". هذه الجلسة تحمل إشارات عملية إلى بداية إعادة دمج الاقتصاد السوري في قنوات التمويل والمعايير العالمية.

حددت الجلسة ثلاثة محاور تقنية: إعادة هيكلة البنك المركزي وأطر الحوكمة الداخلية، تحديث أدوات السياسة النقدية للتحكم بالكتلة النقدية والتضخم، وتعزيز الشفافية المالية عبر تحسين جودة البيانات ونشرها المنتظم. هذه المحاور تقود نحو هدف واحد: تحويل البيئة المالية السورية من وضع إدارة الأزمات إلى وضع إدارة النمو، بما يسمح بقراءة المخاطر الائتمانية وتحديد كلف التمويل وإطلاق قنوات استثمارية منظمة.

إدراج سوريا على جدول أعمال الاجتماعات السنوية يرسل إشارة مزدوجة، للمجتمع الدولي الذي بات يتعامل مع الملف السوري باعتباره جزءاً من الاستقرار الإقليمي، وفي المقابل تُمنح دمشق فرصة لالتقاط لحظة "عودة الثقة" بشرط تحويلها إلى تغييرات مؤسسية داخلية.

ثالثاً: الانعكاسات السياسية الداخلية

تزامنت هذه التطورات الاقتصادية مع انتخابات مجلس الشعب التي جرت في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر، والتي اعتُبرت محطة سياسية مهمة في مسار التحول السوري الحديث، خصوصاً أنها الأولى بعد بدء مسار رفع العقوبات والانفتاح الدولي.

هذا التوازي بين الإصلاح الاقتصادي والتحرك السياسي يعكس إدراكاً متزايداً لدى صانعي القرار بأن الاقتصاد والسياسة في سوريا باتا مترابطين بشكل وثيق. فنجاح أي خطة اقتصادية يتطلب توافقاً سياسياً داخلياً يضمن الاستقرار، إلى جانب توافق خارجي يفتح الأبواب أمام الاستثمارات والمساعدات. بذلك، تصبح الانتخابات الأخيرة ليست مجرد استحقاق دستوري، بل جزءاً من إعادة صياغة العقد السياسي-الاقتصادي الذي تسعى سوريا لترسيخه في المرحلة المقبلة.

نحو أفق جديد للاقتصاد السياسي السوري

بين تصريحات وزير المالية حول رفع العقوبات، والنقاشات الدولية في صندوق النقد والبنك الدولي، والتحولات السياسية الداخلية التي رافقت انتخابات مجلس الشعب، تبدو سوريا في الفترة ما بين 10 و13 تشرين الأول/أكتوبر أمام مرحلة انتقالية فارقة. إنها مرحلة تتقاطع فيها الدبلوماسية مع الاقتصاد، وتلتقي فيها الإصلاحات الداخلية مع الانفتاح الدولي، بما يمهد الطريق نحو استقرار سياسي واقتصادي أوسع.

هذه المرحلة ليست مجرد محطة عابرة، بل بداية مسار طويل يتطلب إدارة دقيقة للتوازن بين الداخل والخارج، وبين متطلبات التنمية وحاجات الاستقرار. إذا ما نجحت دمشق في تحويل هذه الفرصة إلى برنامج إصلاحي متكامل، فإن السنوات المقبلة قد تشهد إعادة رسم ملامح سوريا اقتصادياً وسياسياً، لتتحول من دولة محاصرة إلى فاعل إقليمي يعيد صياغة موقعه في الشرق الأوسط.

مشاركة المقال: