محمود ياسين
لا أزال أوضح أنها "رويدا"، اسم الفتاة وليس "رويدًا" بالتنوين. يقرأ الكثيرون اسم الرواية خطأً على أنه "قبل أن أقتل رويدًا" بالتنوين، بمعنى "تمهلوا قبل أن أقتل"، بضم الهمزة، بينما هي "أَقتل" بالهمزة المفتوحة. والفعل مضارع مبني، ولا أعرف لماذا ولا لأي شيء هو مبني، للمجهول أم للمعلوم.
أشرح وأشرح وأستدرك وأكرر: لا، لا، كان قصدي... وهو من جانبه لا يكف عن طلب التفسيرات، وأنا أريد أن أخزن وأنتشي ولا أريد أن أقتل أحدًا، ولا أحد يقتلني.
ما أريد رواية! من أخبرك أنني روائي أصلًا؟ سأجد هذا الواشي الذي قال إنني كتبت هذه الرواية الملعونة، وآمل ألا تصدق وتسمع الوشاة، وهذه مسؤولية. وأنا، يعلم الله، لم يعد لي من صنعاء غير قطرات القات وشربة الماء الساقعة. الآن، ومع هذا الشرح، جعلتني كمن يلوك الرماد ويحتسي حمض الكبريتيك المركز.
أتدري؟ أنا فقط أتباهى وأوافق على كوني روائيًا ومستعد حقًا لكتابة الروايات، ولكن بدون شرح وإيضاح نواياي وما كنت أرمي إليه، لكنك مصر، وإن شاء الله تصر كل جنادب قرى ريف صنعاء في أذنك إلى أن تتخلى وتنشغل عن اهتماماتك الأدبية التي تشبه عملية إبادة ممنهجة.
أنا أشكرك حقًا مقابل سخائك المفرط هذا بشأن أنك تقرأ لي من أيام الصحوة. الصحوة أصلًا صحيفة كريهة تذكرني بالوضوء الإجباري وتذكرني برائحة المسك في فم الصائم وما شابه. أما الثوري فكنت أكتب لها حياءً من خالد سلمان، أو على سبيل الخوف من تصنيفي كإصلاحي، ولقد خسرت الحزبين معًا آخر المطاف.
ثم إن سؤالك المتكرر: أين أجد نسخة من الرواية؟ هو أقرب للتعذيب، فقد جعلتني وبعناء أستحضر مكتبات من ذهني المرهق وأفكر في أشياء من قبيل ابن خلدون ومكتبة المعرفة. والأكثر خطورة على هذا المقيل أنك دفعتني للتفكير في مكتبة اسمها تكتب، اسم أشد التباسًا ومدعاة للتشتت من اسم الرواية، إذ إنه من غير العادل أن يهجس أحدنا بين المغرب والعشاء بشيء من قبيل مكتبة تكتب. هذا أقرب للعبة ترديد جملة تختبر مخارج حروفك، وأنا الآن أريد أن أتخارج، أتخارج حتى من رثاء شارع حدة وزمن المكتبات وتلك الصدفة التي جمعتني بصاحب مكتبة هناك وقد أفلس وانصرف للتجوال مع جماعة الدعوة ليحذر من الغزو الفكري ويدين قراءة الكتب التي كان يبيعها.
هو زمن غريب يا أخي الكريم، والروائي الذي في ذهنك ربما تجده في السان جرمان أو السان دي بري في باريس، يرتدي معطفًا رماديًا ثقيلًا "حتى في الصيف"، ويدخن من غليون خشبي صنعه حرفي يعاني التهاب المفاصل، ولا يكف يَكُزّ على أسنانه حقدًا على المهاجرين العرب الذين أفسدوا جمال وأناقة الشانزليزيه، إذا زاحموه هناك على حلمه المتأنق بالتراث وشرعوا في بيع مستحضرات الطب البديل وما شابه.
ما علاقة هذا بذلك بشارع حدة بالشانزليزيه؟ لا أدري.
كل ما هنالك أنه من المخاطرة بدرجة ما أن تكتب رواية وتحاول بعدها أن تخزن في استراحة شباب حدة، بينما يتوقع القارئ مصادفتك في السان جرمان تعتمر قبعة وتلف عنقك بشال رمادي وترثي تخلف الشرق الأوسط. هذا وعيك واستجابتك للتوقعات، بينما كنت في حال غادرت صنعاء إلى باريس، لربما، وهو المرجح، أن تصادفني أغسل الصحون في مطبخ مطعم في الحي اللاتيني.
أنا هنا جيد، شيخ هكذا، راكز ومنتشي وبدون مآثر أدبية أو إيماءات حداثوية.
بالنسبة لرواية قبل أن أقتل رويدا، كتبتها هكذا "شلخ" كما يقال، ولست مهتمًا الآن بتفسير من قتل من على وجه التحديد. نحن في اليمن وقد أمضينا العقد الأخير نقتل بعضنا دون توضيحات، ودون ندم.
تبقت لي هذه اللحظات، ماء ونشوة ومتكأ هو في زاوية مثالية من الكون، زاوية تمكنني من زحزحته وإعادة ترتيب المجرات.
على كل، سمعت أنهم يبيعونها في مكتبة ابن خلدون.
تدري؟ أنا بصدد كتابة جزء ثانٍ من الرواية، عنوانها: قبل أن أقتل القارئ. تدرون؟
كل رواية كتبتها كانت كذبة، بدأت بكذبة لأصدقاء: أنا أكتب رواية اسمها تبادل الهزء، بعدها قبل أن أقتل رويدا، وما تلبث الكذبة أن تتحول لحلم وجهد وبحث عن ناشر، ولقد حظيت بـ Ayman Ghazly، وقام بمنح اللحظتين أغلفة وراح يسوّق حلم اليمني في معارض الكتب ويمنح السردية ركنًا في كل عاصمة يمر بها هذا الناشر المتبقي من زمن الحماسة.
الآن أنا منهمك كلية بإعادة ترتيب الكذبات الثلاث: على حافة الكأس، الرابط، ليلة نيويورك. ويقال إن الفن مثل الحب "كذبتنا الصادقة". في السياسة والصراعات الصغيرة يستتفهك الوجود أحيانًا وتعلق في مساجلات لا تدري بملامح من تخوضها، وكأنك مزيج من كل ما ليس أنت. لكن في الرواية أنت المتصرف والإرادة الكلية، وبيدك سوط البرق، وأنت التكوين والمعاقب والمكافئ، تخلق شخصيات ما تلبث أن تتسرب من بين أصابعك وتبدأ التصرف على نحو مستقل.
في الرواية أنت أكثر من الضغينة وأقل من الخيلاء الزائف، مدرك ومستبصر ونافذ وكامل الضربات، وكأن الروائي يعيد ترتيب الفوضى الواقعية بفوضى موازية لا مخاطر في اقتفاء وجهتها ومنحها طاقتها القصوى، مثل حالة تجريب وارتجال حياة؛ حياة كلما حاولت من خلالها إعادة الضبط وتخطي الخلل كلما اختلت قناعاتك بشأن قدراتك مقابل قدرة الحياة الواقعية على ملاحقتك إلى عالمك السردي الذي تلعب فيه دور الإله لتعيدك من أذنك لحقيقة كونك مجرد إنسان لديه كذبة ارتجلها بمواجهة الحقائق القاسية.
لا سيجار لدي ولا معطف ولا قبعة أيضًا، لم أجلس في ركن معرض كتاب لأوقّع النسخ للقراء وأصغي لأنفاس قارئة شغوفة وهي تقترب أكثر لنتأكد من كوني حقيقيًا، وأنها قد اقتربت من حلمها العذري ومثالها الملهم.
حيث أنا فحسب، في صنعاء عاصمة الجمهورية اليمنية، أُفرد الخريطة، أتتبع طرقات السيارات وألتفت للشاحنات وكثبان بلادي، وحيث النوافذ الشحيحة في مساءات القرى على الجانبين، أتشمم روائح الوجود، العناء والتساؤلات والرجاءات الصغيرة، أتلّمس التضاريس ممتدًا، أطل من علٍ على الخريطة وكأنني أتنفس داخلها لأبعث الحياة، وأعود بعدها لطفولتي في الطريق إلى فصل جديد من حكاية ريمي ولا أتبين من الذي يتعثر في الطريق تحت المطر: أنا أم هو؟
ثلاث روايات الآن، كن كذبات صميمة، والآن مخطوطات وقعن ضحية نصيحة ماريو يوسا، وهو يلقي خطاب نوبل ويقول إن العمل الروائي هو في إعادة الصياغة وفي اكتشاف الإمكانات المدهشة لإعادة الخلق ووجهات الشخصيات، وكيف أن كتابة رواية هو إعادة صياغتها في حالة من نشدان الكمال، الكمال المتعذر والذي يجسده البحث عنه باستماتة. لا أكثر كمالًا وجمالًا من كذبة أُعيد صياغتها بحماسة من بدأ يصدق نفسه.
لا أحد يجلس بثقة من ينطوي على خبرة كافية وحرفية ليكتب رواية، أنا فقط، وحتى في المقالات أبدأ بأصابع قلقة وأردد في النهاية: لقد فعلتها مجددًا. الفن كما يقال: رمية نرد تصيب في كل مرة.
الرواية تظل للأبد بينما ينسى الناس المقالات. أكتب وأقوم بالتعديلات، ورغم الإجهاد في هكذا تعديلات أتذكر ما قاله يوسا: إن لذة العمل الروائي في المرحلة الثانية، يقصد الحذف والإضافة ومنح الرواية نغمتها الأقرب للكمال. كان ديستويفسكي يفكر بحسرة في آخر أيامه لو أنه قام بتعديل عبارات كثيرة من رواياته. وأفكر الآن في تساؤل حول: إلى متى أظل أنفي تهمة الغرور الذي يبدو من خلال حديثي عن يوسا وديستويفسكي وكأنني واحد منهم؟ ثم يخطر لي تساؤل آخر: هل كان عليّ أن أولد في براغ مثلًا؟ ويكون اسمي ميلان بدلًا من محمود الذي وُلد في رُجاح؟ وذلك لكي أتمتع بالأهلية الكاملة للتواجد في العالم الروائي بجدارة؟
قال ماركيز مرة: إن عليك أن لا تكتب بتواضع، ذلك سيبقيك كاتبًا متواضعًا على أية حال. ولقد صادف وليم فوكنر مرة أحد الكتّاب المتواضعين، وهو يقول إنه سيكتب قصة لأهالي البلدة فذلك ما يمكنه، بينما كان فوكنر يضمر كتابة رواية للعالم، وحصل كل منهما في النهاية على ما أراد.
أتدرون يا أصدقائي لماذا أكرر هذه اللكنة كلما كتبت؟ أقصد تجدونني أكتب عني وأقول: كنت وكنت وفعلت؟ تلك هي لكنتي الوجودية منذ وعيت العالم، ولقد عرفت لاحقًا أن هذا مزاج روائي أيضًا. وكوني يمنيًا الآن فأنا لست ملتزمًا بالتواضع الروائي أيا يكن ما قالته تبادل الهزء وما التقطتموه والانفعالات التي تمكنت من مشاركتها معكم أو القدرة والإخفاق في منحكم حكاية يمنية وتنويعات فنية، إلا أنني ممتلئ بذلك الحس القاهر لكوني سأهمس في أذن العالم يومًا بمروية يمنية تُوضع بعين الاعتبار وفي المكان اللائق بتجربة إنسانية جديرة بالشغف.
ولا أغفل هنا أن أصواتًا كثيرة قالت: "أنا العزي"، وكانت تلك أعظم تحية تلقيتها وقد أرضتني تمامًا. "أنا العزي" كانت هدفي ورجائي وأنا أكتب لكم تبادل الهزء، ولقد فكرت بها كثيرًا وبحماس مفرط ومنتشي، كيف يغلق أحدكم الرواية مع آخر عبارة فيها ويردد جملة "أنا العزي".
السياسة يا أصدقائي مضنية مخاتلة وتجعل أحدنا متملقًا لذهنية ما ويتورط في تلبية التوقعات، بينما في العالم الروائي ما من تسويات ولا حذاقة ولا تبرئة ساحة بموقف صارم، إنها المكان الذي تتجول فيه بكامل أناك، عارٍ ومتضرر ومتهكم، وصوتك يخرج منك لا من الضرورة والخندق.
أنجزت للآن ثلاث روايات بعد تبادل الهزء، لكن السياسة لا تدعني مع أبطال رواياتي نتحدث بهدوء. أفكر أن بلادنا تتداعى، وكيف لي أن أبدو بهذا الاسترخاء لأنهمك في عوالمي الروائية؟ لكنها هكذا أناتي ووجوديتي الآن، وإن لم أتعرف ككاتب سياسي لنهاية هذه الحكاية المأساوية، إلا أنني أحاول بالمقابل سرد نهاية حكاية يمنية أتمكن فيها من تجنب ما داهمنا في الواقع، ذلك أنه وأيًا تكن نهاية الحكاية الفنية، إلا أنها بالتأكيد لن تكن بقسوة ما تخطه الأسلحة من نهايات شنيعة. غالبًا أقاوم قدر السلاح بإنسانية الفن. ربما لن يترتب على ما أكتبه من روايات أي مجد، وقد لا يصغي العالم يومًا لمروياتي، لكنني سأسرد بلا توقف، ذلك ما يبقيني قادرًا على التنفس.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _راي اليوم