الأربعاء, 18 يونيو 2025 07:07 PM

البرنامج النووي الإيراني: هل تتجه المنطقة نحو حرب أم صفقة مستحيلة؟

د. سلمان ريا: يقف الشرق الأوسط اليوم على حافة مشهد بالغ الخطورة، حيث تتداخل الحسابات النووية مع صراعات الهيمنة في لحظة تبدو فيها كل الأطراف كأنها تسابق الزمن نحو حسم يُراد له أن يكون نهائيًا. واشنطن تلوّح بعروض تفاوضية تعتقد طهران أن قبولها أشبه بالاستسلام الكامل، بينما إسرائيل تتعامل مع اللحظة باعتبارها الفرصة التاريخية التي لا يجب أن تضيع، وهي تمضي بخطوات مدروسة نحو معركة تحسم مصير البرنامج النووي الإيراني برمته.

دونالد ترامب، الذي عاد إلى الواجهة متسلّحًا بدعم قوى غربية وبتأييد إسرائيلي غير مسبوق، لا يطرح في واقع الأمر سوى معادلة واحدة: تفكيك شامل وكامل للبرنامج النووي الإيراني، تخلي طهران عن التخصيب بجميع مستوياته، تسليم المعدات ذات الاستخدام المزدوج، والقبول برقابة دولية مشددة إلى حد الإذعان. هذا العرض الذي يبدو على الورق أشبه بمحاولة فتح باب دبلوماسي، ما هو إلا إعادة إنتاج لفلسفة “الضغط الأقصى” بصيغة أكثر صرامة. من الجهة المقابلة، تدرك إيران أن القبول بهذا الطرح ليس إلا خطوة أولى نحو نزع آخر أوراق القوة من يدها، تليها على الأرجح محاولات ممنهجة لزعزعة نظامها السياسي. طهران تعلن استعدادها للتخلي عن التخصيب العالي مقابل الحفاظ على هامش بسيط يسمح لها بتطوير برنامج مدني تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكنها ترفض فكرة الاستسلام الكامل تحت أي ظرف.

في هذه اللحظة الحرجة، يبرز الدور الروسي كحامل لعرض وسطي يتمثل في نقل المواد النووية المخصبة إلى الأراضي الروسية، كضمانة لإبعاد البرنامج الإيراني عن الاستخدام العسكري. ورغم ما تحمله هذه الفكرة من أبعاد براغماتية تحفظ ماء الوجه لجميع الأطراف، إلا أن إسرائيل تراها لعبة تأجيل خطيرة تمنح طهران مزيدًا من الوقت لتطوير قدراتها بطرق يصعب تتبعها لاحقًا. نتنياهو، الذي يبدو اليوم أكثر حسمًا من أي وقت مضى، يدفع بقوة نحو عمل عسكري مباغت يوجه ضربة قاصمة للبنية النووية الإيرانية. التقديرات الإسرائيلية تستند إلى معلومات استخباراتية تفيد بأن إيران باتت على بعد أشهر قليلة من امتلاك القدرة الفنية اللازمة لتطوير رأس نووي قابل للاستخدام، الأمر الذي يجعل من التأجيل مغامرة محفوفة بالمخاطر. في العمق، ترى تل أبيب أن الوقت يعمل لصالح إيران، وأن أي صفقة مرحلية ستؤسس لوضع يصعب تغييره مستقبلاً.

الولايات المتحدة، رغم تحفّظها الظاهري حيال انزلاق المنطقة إلى مواجهة شاملة، لا تمانع منح إسرائيل مساحة للتحرك العسكري إذا كانت العملية قادرة على تقويض البرنامج النووي الإيراني دون إشعال حرب كبرى. واشنطن تتصرف بثقة مفرطة، وتحتفظ بما تعتبره “ألف ذريعة جاهزة” لتبرير أي عمل ضد إيران إذا اقتضت الحاجة، بما في ذلك اتهامها بالاعتداء على المصالح الأمريكية حتى عبر حوادث هامشية. اللعبة الآن تدور على حافة السكين: صفقة مستحيلة، صبر ينفد، واستعدادات ميدانية تتسارع على أكثر من جبهة.

إسرائيل كثّفت عمليات الاستطلاع فوق لبنان وسوريا والعراق، أعادت نشر منظوماتها الدفاعية حول مواقعها الحساسة، ورفعت من جهوزية سلاح الجو وقوات الصواريخ. إيران من جهتها عززت حماية منشآتها النووية، ووسّعت مناوراتها الصاروخية بمشاركة الحرس الثوري، مع نشر أسلحة متطورة في سوريا والعراق لتأمين عمقها الاستراتيجي. حزب الله رفع جاهزيته القتالية، وهو يحافظ على مستوى مدروس من التصعيد على الحدود مع إسرائيل، فيما تواصل الفصائل العراقية المرتبطة بإيران هجماتها على القواعد الأمريكية في العراق وسوريا باستخدام صواريخ قصيرة المدى وطائرات مسيّرة. في اليمن، يُبقي الحوثيون يدهم على الزناد، مع تصاعد التهديدات باستهداف مصالح أمريكية وإسرائيلية في البحر الأحمر.

الولايات المتحدة كثّفت وجودها العسكري في الخليج وشرق المتوسط، وأرسلت حاملة طائرات إضافية إلى المنطقة في إشارة واضحة على الاستعداد لأي طارئ. في المقابل، تقدم روسيا دعمًا استخباراتيًا لإيران عبر سوريا، وتتابع بقلق محاولات التصعيد الإسرائيلي، لكنها تحرص في الوقت نفسه على تجنب أي صدام مباشر مع تل أبيب. الصين تراقب المشهد عن كثب، وتسعى إلى التهدئة عبر قنوات خلفية لحماية تدفق الطاقة، لكنها في اللحظة الحالية لا تملك القدرة على كبح الاندفاعة الإسرائيلية الأمريكية.

رغم المساعي الأوروبية للحفاظ على هامش دبلوماسي يجنّب المنطقة حربًا كبرى، تبدو قدرة أوروبا على التأثير محدودة أمام قناعة أمريكية وإسرائيلية بأن الوقت ينفد، وأن الفرصة السانحة قد لا تتكرر. السيناريو الأكثر احتمالًا لا يبدو أنه يتجه نحو تسوية. المسار يقود نحو ضربة عسكرية محدودة قد تُنفّذها إسرائيل بضوء أخضر أمريكي، مع محاولة احتواء الرد الإيراني ضمن حسابات مضبوطة. التصعيد الاقتصادي والسيبراني سيستمر في جميع الأحوال، أما فكرة التوصل إلى صفقة على النموذج الروسي أو عبر خفض محدود في مستوى التخصيب فباتت، كما يبدو، احتمالًا بعيد المنال.

في جوهر المشهد، لا تدور المسألة حول عدد أجهزة الطرد المركزي أو نسب التخصيب، بل حول معركة كسر إرادات تتجاوز الساحة الإيرانية إلى إعادة رسم موازين القوة في المنطقة. إسرائيل ترى أن تسوية جزئية ستُبقي الخطر قائمًا، والولايات المتحدة تريد استسلامًا سياسيًا كاملاً، فيما تعتبر إيران أن التراجع في هذا الملف تحديدًا يعني بداية النهاية لنظامها. الجميع يتقدمون بخطوات محسوبة، لكنهم يقتربون من هاوية خطرة قد تتجاوز حساباتهم بمجرد أن تسقط أول شرارة.

المنطقة اليوم تعيش على خيط رفيع يفصل بين التوتر القابل للاحتواء والانفجار الشامل. الميدان يتحدث بلغة التصعيد، فيما السياسة تتظاهر بإمكانية الحوار، لكن الحقيقة التي تتشكل بصمت هي أن الطريق إلى الحرب بات مفتوحًا أكثر من أي وقت مضى، وأن ارتكاب خطأ تقديري صغير كفيل بأن يطلق شرارة مواجهة قد لا يتمكن أحد من إطفائها.

مشاركة المقال: