بعد فترة من الانفتاح من قبل نشطاء في السويداء تجاه الحكومة في دمشق، تتزايد التساؤلات حول أسباب تغيّر هذه المواقف في أعقاب موجة العنف الطائفي الأخيرة، وما إذا كان لا يزال هناك مجال لإعادة بناء الثقة.
في أوائل آذار/ مارس، عمت حالة من التفاؤل ساحة الكرامة في مدينة السويداء، كما هو الحال في بقية المدن السورية، احتفاءً بالاتفاق بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). هتف المتظاهرون "واحد واحد واحد، الشعب السوري الواحد"، دعماً للوحدة السورية، معربين عن أملهم في أن يمهد الاتفاق الطريق لتفاهم مماثل مع الفصائل المحلية الدرزية في السويداء.
ولكن، بعد مرور أربعة أشهر، خفتت هذه الأصوات، خاصة خلال الأسبوعين الماضيين، نتيجة للأحداث الدامية التي أودت بحياة العديد من الأشخاص في المحافظة الجنوبية. الناشطة عبير القنطار (اسم مستعار)، 52 عاماً، وهي من الطائفة الدرزية، أعربت عن أسفها قائلة: "نأسف للقول أن الشعب السوري ليس واحداً، والدم السوري ليس واحداً"، وأضافت في حديثها لـ"سوريا على طول": "لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة. لا أستطيع أن أتخيل أننا ما زلنا نستطيع العيش معاً".
كانت القنطار من بين منظمي الحراك السلمي المعارض لنظام الأسد في السويداء، والذي استمر لأكثر من عام، كما شاركت في مظاهرة آذار/ مارس. وفي 14 تموز/ يوليو، تدخلت القوات الحكومية في محافظة السويداء في محاولة لفض النزاع ووقف الاشتباكات التي اندلعت بين أبناء الدروز والبدو من أبناء المحافظة، بحسب الرواية الحكومية. إلا أن البعض اعتبر هذه الخطوة محاولة من دمشق لفرض سيطرتها على المحافظة بالقوة.
أدى هذا التدخل إلى اندلاع قتال جديد، حيث وقعت اشتباكات بين المجموعات العسكرية الدرزية المحلية والقوات الحكومية والمجموعات المسلحة الموالية لها، بما في ذلك مقاتلو العشائر البدوية. وخلال الاشتباكات العنيفة في السويداء وما حولها، قتلت القوات الموالية لدمشق مدنيين دروز، ووقعت عمليات قتل مماثلة على يد المجموعات الدرزية من أبناء عشائر البدو، وهم من السكان الأصليين في المحافظة.
تدخلت إسرائيل و قوات الأمن الداخلي ووزارة الدفاع السورية في دمشق، ما أجبرهم على الانسحاب تاركين وراءهم دماراً واسعاً: منازل محترقة ومنهوبة وجثث في الشوارع. وردت القوات الدرزية على الفور بموجة جديدة من الهجمات، ما أسفر عن سقوط ضحايا وتشريد مدنيين بدو وحرق منازلهم، وهو ما دفع العشائر السورية إلى إعلان "النفير" أو "الفزعات". استجابت لها عشرات العشائر من جميع أنحاء سوريا، وتدفق مقاتلو العشائر إلى السويداء لخوض جولة جديدة من القتال.
في 19 تموز/ يوليو، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق نار برعاية دولية، وافقت عليه دمشق والمجموعات الدرزية والبدو. ومنذ ذلك الحين، تعيش المحافظة هدوءاً هشاً يتخلله خروقات من الجماعات الدرزية والبدو، فيما تمنع القوات الحكومية مقاتلي العشائر من الدخول إلى السويداء. وفي إطار الاتفاق، نزحت مئات العائلات من بدو السويداء إلى المحافظات المجاورة.
بينما كان العديد من النشطاء الدروز، قبل أربعة أشهر، يدعون إلى الوحدة والانفتاح على حكومة دمشق، وجدوا أنفسهم أمام انهيار لما كانوا يأملون أن يكون ممكناً في سوريا بعد سقوط نظام الأسد. وهو ما يثير تساؤلاً ما إن وصلت السويداء إلى نقطة اللاعودة، أم أن هناك أفقاً لرأب الصدع؟ وما الذي يمكن أن تفعله دمشق لإصلاح العلاقة مع المجتمع الدرزي؟
الانفتاح الأولي تجاه دمشق!
مثل القنطار، كانت سارة عز الدين (اسم مستعار)، 35 عاماً، وهي ناشطة نسوية درزية تعمل مع منظمات المجتمع المدني في السويداء، جزءاً من الأقلية الصغيرة التي تؤيد منح الحكومة الجديدة -بقيادة الرئيس أحمد الشرع- الفرصة. وقالت عز الدين: "كنت منفتحة حقاً على التعاون مع الحكومة الانتقالية، بناء على الوعود التي قطعتها الحكومة للشعب السوري بأنها ستحقق جميع أهداف الثورة، ولأننا نشترك في نفس التجربة والتاريخ من العنف على يد النظام [الأسد]".
وأضافت لـ"سوريا على طول": "كنا نعتقد أن الانتقال السياسي هو الحل الوحيد، لذلك حاولنا التعاون معهم من خلال أنشطتنا كمجتمع مدني، ومن خلال الاجتماعات مع صانعي القرار. وأنا شخصياً لم أتردد في تقديم خبرتي لأعضاء الحكومة". كانت القنطار تعلق آمالاً كبيرة على أن الحكومة الجديدة تسعى إلى حل سياسي، بدلاً من حل عسكري، لتوحيد البلاد، وقالت: "كنا نعلم أنه [الشرع] إرهابي، بناء على [ارتباطه] بتنظيم القاعدة وعلاقته مع داعش"، ومع ذلك "قلنا: ربما سلك طريقاً وطنياً… أو أن هناك موقفاً دولياً لتحويل سوريا إلى دولة ديمقراطية، كما يستحق شعبها".
اتصلت الإدارة السورية الجديدة مع خالد مزهر (اسم مستعار)، 46 عاماً، وهو درزي وعضو في الحراك المدني بالسويداء من أجل العمل في إحدى مؤسساتها الحكومية، وكان لديه "أمل كبير جداً في وحدة سوريا" وموقفه تجاه الحكومة الانتقالية "كان جيداً، لأنها كانت جزءاً من سقوط نظام بشار الأسد، وكان من الواضح أنها تريد أن تفعل شيئاً جميلاً في البلاد". لكن "أفعالهم لم تكن مثل أقوالهم"، كما قال لـ"سوريا على طول".
بدأ موقف القنطار ومزهر تجاه دمشق يتغير تدريجياً مع بدء تشكيل الحكومة الانتقالية، في أواخر آذار/ مارس الماضي. وقالت القنطار: "بدأت الأمور تتكشف شيئاً فشيئاً وأصبح الموقف واضحاً لنا، عندما وقعت الانتهاكات في الساحل [في آذار/ مارس]، ثم الإعلان الدستوري… وترسيخ الدكتاتورية". في أواخر آذار/ مارس، أصدرت الإدارة السورية الجديدة "الإعلان الدستوري"، وهو مسودة دستور لحكم البلاد خلال المرحلة الانتقالية السياسية بعد نظام الأسد. وعبرت المنظمات السورية والدولية عن قلقها من أن الدستور الجديد يركز السلطة في يد الرئيس، ويقوض استقلال القضاء.
"تغير موقفي تدريجياً، ليس خلال الأحداث في السويداء، ولكن الآن أصبح الأمر بمثابة طلاق بيني وبينهم [الإدارة السورية الجديدة] ما فعلوه في السويداء، لم يفعله تنظيم الدولة، هم دخلوا وقتلوا الناس في منازلهم وأحرقوها"، بحسب مزهر. في عام 2018، اقتحم تنظيم داعش إلى السويداء، وقتل أكثر من 200 مدني واختطف العشرات من الدروز. في المقابل، فإن "الهجمات العسكرية والإعلامية على حد سواء، ضد محافظة السويداء والسكان الدروز قلصت بشكل كبير الخلافات التي كانت موجودة بين مختلف المجموعات الدرزية المسلحة والسياسية"، قال الأكاديمي السوري-السويسري، جوزيف ضاهر. لافتاً في حديثه لـ"سوريا على طول، إلى أنه "في ظل موجة التهديدات المميتة، التي يُنظر إليها على أنها هجوم على السكان الدروز ككل، تشعر جميع الأطراف الفاعلة الاجتماعية والسياسية الدرزية بالحاجة إلى الوحدة".
واليوم، يجد مزهر والقنطار وعز الدين أنفسهم متفقين مع أبناء طائفتهم، الذين شككوا في الحكومة منذ يومها الأول. لذا تبدي عز الدين ندمها على تصديق الرواية الرسمية عن الانتهاكات التي وقعت في الساحل، والتي قُتل خلالها أكثر من 1400 شخص، بينهم العديد من المدنيين، معظمهم من العلويين. وكما في الساحل، اعترفت دمشق بوقوع انتهاكات، لكنها ارتكبت من قبل قوات خارجة عن سيطرتها، وفقاً لها. بعد أحداث السويداء، تعتقد عز الدين أن "الحكومة تسيطر فعلياً على كل خطط الفصائل وتعرفها".
وكانت لجنة التحقيق المستقلة، التي شُكلت عقب أحداث الساحل في آذار/ مارس، قد أعلنت في 22 تموز/ يوليو الحالي، عن نتائجها في مؤتمر صحفي بدمشق، مؤكدة وقوع انتهاكات واسعة النطاق ضد المدنيين، بما في ذلك عمليات قتل طائفية. وشددت على أن "الانتهاكات رغم كونها واسعة إلا أنها لم تكن منظمة". وذكر رئيس اللجنة خلال المؤتمر الصحفي، أن اللجنة حددت 530 مشتبهاً بهم: 298 فرداً وجماعة موالية للحكومة، و265 فرداً تابعين لقوات مسلحة موالية للنظام "فلول النظام".
ترميم العلاقات
يعتقد مزهر والقنطار أن دمشق لن تتمكن من إصلاح الانقسام مع السويداء بعد ما جرى من أحداث عنف. قال مزهر: "لا أعتقد أن هناك ثقة أو إمكانية لبناء سلم أهلي بسبب الانتهاكات التي وقعت. اللاعودة فُرضت علينا بعد الأحداث الدامية". وأشار مزهر إلى أن الفرصة الوحيدة للتغيير هي "أن تسعى دمشق إلى حكم شامل للجميع عبر -ربما- تخلي الحكومة عن عنجهيتها وعن فكرة من يحرر يقرر أو عبر وساطة دولية"، مشدداً على ضرورة "إشراك كل الشعب السوري في الحكومة، وليس مجموعة واحدة فقط".
وأثار تعيين أعضاء من هيئة تحرير الشام و من عائلة الرئيس الشرع في مناصب رئيسية ووزارات غضب الكثير من السوريين، وقد وصف البعض ذلك بأنه "احتكار للسلطة". وقال مزهر: "إذا تغيرت قناعاتهم وأيديولوجيتهم [الإدارة الجديدة]، ربما يمكن بناء جسور الثقة والسلم الأهلي في المستقبل، ولكن إذا استمرت عنجهيتهم، فسوف يفقدون المكونات السورية المتبقية"، في إشارة إلى الأقليات العرقية والدينية الأخرى.
بالنسبة للناشطة عز الدين، يتعين على الإدارة الجديدة "البدء باتخاذ خطوات ملموسة قبل الحديث عن المصالحة". من قبيل: "إجراء تحقيق في الانتهاكات التي وقعت في السويداء"، وهو ما وعدت به بالفعل دمشق, إضافة إلى "مزيد من الشفافية بشأن نتائج هذه التحقيقات". وأضافت عز الدين "نحتاج إلى حوار وطني حقيقي لجميع السوريين"، لكن قبله "نحتاج إلى حماية المدنيين، وحماية جميع الطوائف في سوريا"، كما "نحتاج إلى إصلاح الفصائل العسكرية".
في الأيام الأخيرة، دعا عدد من الشخصيات البارزة في المجتمع المدني السوري إلى عملية حوار وطني جديدة، تستمر لمدة تصل إلى عام أو أكثر، خلافاً لمؤتمر الحوار الوطني السابق، الذي عقدته الحكومة في شباط/ فبراير الماضي، ليوم واحد فقط. وذهب الدكتور رفعت عامر، الأكاديمي السوري المقيم في السويد، إلى أن "الحل ممكن في حال قطعت الحكومة علاقتها تماماً بالجماعات التكفيرية، وتوقفت عن مقولة جماعات منفلتة، لأن ما يحدث ليست حوادث فردية بل أفعال منهجية".
واقترحت عز الدين تعديل الإعلان الدستوري لإضافة بند يحمي الأقليات، "يؤسفني أن أقول ذلك. كنا نأمل لا نتحدث عن الأقليات بعد الأسد، لكننا الآن بحاجة إلى شيء ما لنقول إن الأقليات محمية". ورأى ضاهر أن على الحكومة أيضاً أن تدخل في "حوار حقيقي مع الفاعلين الاجتماعيين والمسلحين والسياسيين في السويداء، دون فرض إرادتها للحصول على تنازلات"، مضيفاً أنه يجب عليها "السماح لسكان السويداء باختيار ممثليهم، وكذلك الأمر في بقية المحافظات السورية".
بدورها، قالت الصحفية والناشطة الحقوقية المقيمة في فرنسا، إباء منذر، "إن مستقبل السويداء، وربما التماسك المجتمعي في سوريا مرهون بقدرة الدولة على إثبات التزامها الحقيقي بالمواطنة والعدالة، لا بتكرار السياسات التي عمقت الانقسام، وافقدت الناس ثقتهم بالمؤسسات الحكومية، وبصورة خاصة الجيش". وأضافت منذر في حديثها لـ:سوريا على طول": "تركت الانتهاكات الأخيرة شرخاً عميقاً. نواجه اليوم خطاباً طائفياً وتحريضاً وقتلاً بالمجان، ما يجعل أي محاولة للتهدئة غير ذات جدوى إذا لم تكن مدعومة بخطوات ملموسة من جانب الدولة بالدرجة الأولى". وختمت: "لا مخرج من هذا النفق المظلم دون اتخاذ السلطة خطوات جادة وحقيقية وليس خطوات شكلية".