يشكل العدوان الإسرائيلي على قطر، الذي استهدف وفد حركة "حماس" المفاوض في التاسع من سبتمبر الحالي، سابقة في العلاقات السياسية والدبلوماسية الدولية. لا يقتصر الأمر على الاعتداء على دولة ذات سيادة تلعب دور الوساطة بين "حماس" وإسرائيل بناءً على طلب من الولايات المتحدة الأمريكية، بل يشمل أيضًا دولة خليجية صنفتها أمريكا رسميًا كـ"حليف رئيسي" من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتضم قاعدة "العديد"، إحدى أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة.
تحتوي قاعدة "العديد" على جهاز رادار يصنع سحابة جوية تغطي سماء قطر بأكملها وأجزاء من الدول المجاورة لحمايتها من أي هجوم جوي. ومع ذلك، لم يعترض نظامها الدفاعي الصواريخ الإسرائيلية دفاعًا عن حليفها والأرض التي تقيم عليها القاعدة. هذا ينسف أوهام عقد الأحلاف والمعاهدات والاتفاقيات مع الحلف الصهيوني-الأمريكي مقابل الدعم الأمني الأمريكي، مؤكدًا أنه لا توجد دولة في المنطقة بمنأى عن العدوان الإسرائيلي، مهما كانت مقربة من البيت الأبيض.
إن محاولة الاغتيال الفاشلة، سواء كانت تهدف إلى قتل وفد "حماس" المفاوض في قطر، ليست مجرد إصرار على إبادة الفلسطينيين في قطاع غزة وتجريف عمرانه في عملية هندسية ضخمة ومكلفة لجعل القطاع غير صالح للحياة. بل هي معادلة لإخضاع دول المنطقة بأكملها للهيمنة الصهيونية بالعنف المباشر، بما في ذلك الدول التي لديها اتفاقيات سلام أو تعاون تجاري مع إسرائيل استمر خلال الإبادة الجماعية في قطاع غزة والتطهير العرقي الجماعي في الضفة الغربية والتهديد بضم 60% منها.
لقد شجع تواطؤ المجتمع الدولي مع إسرائيل ودعمه المستمر لجرائمها على تحويل بنيتها من مشروع استيطاني توسعي إلى منظومة إبادة جماعية مدرة للربح، كما ورد في التقرير الاستقصائي "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية" الذي قدمته المقررة الخاصة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، فرانشيسكا ألبانيز، إلى مجلس حقوق الإنسان في تموز 2025. يوضح التقرير كيف أن النظام الرأسمالي المعولم، بتشابكاته بين المصالح الاقتصادية والهياكل العنصرية الاستعمارية كالمشروع الاستعماري الإسرائيلي، يحرك جرائم إسرائيل ويدعمها أو يتربح منها شركات متعددة الجنسيات. هذا يعني أن تمويل الإبادة الجماعية لا يقتصر على حكومة الاحتلال، بل يشمل شبكة مالية عالمية تضم شركات تكنولوجيا وطاقة وآليات ثقيلة تساهم في الهدم، وشركات أسلحة تروج لمنتجاتها كأسلحة مجربة، بالإضافة إلى مؤسسات أكاديمية وغيرها من الكيانات التجارية وغير التجارية.
في الواقع، فإن تطور بنية الاحتلال الوحشية جعل من رؤى منظريها السابقين بوصلة لتفتيت سوريا الآن. على سبيل المثال، نشر أوديد إينون، مستشار أرييل شارون عندما كان وزيرًا للدفاع في بداية الثمانينيات، في شباط 1982، خطة بعنوان "استراتيجية لإسرائيل في ثمانينيات القرن العشرين"، تحدث فيها عن ركيزتين أساسيتين: تقسيم الإقليم على أسس طائفية وإثنية، باعتبار أن الدول التي أُنشئت نتيجة اتفاقية "سايكس-بيكو" هي كيانات مصطنعة، و"لا تعبر عن مكوناتها"، وتحويل إسرائيل إلى قوة إمبريالية عالمية. اعتبر الكاتب الفلسطيني خليل نخلة أن ما كتبه أوديد يمثل بيانًا واضحًا ومفصلًا لما يدعوه "الاستراتيجية الصهيونية في الشرق الأوسط" وتصويرًا دقيقًا لرؤية "النظام" الصهيوني الحاكم الحالي (1982) لبيغن وشارون وإيتان للشرق الأوسط بأكمله.
تكمن أهمية هذه الاستراتيجية في الكابوس الذي تمثله، حيث أن المداولات الصهيونية المتكررة المتعلقة بتقسيم الدول العربية طُرحت منذ منتصف الخمسينيات في مذكرات رئيس الوزراء آنذاك موشيه شاريت، وطُبق منها الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1978. وتنسجم "استراتيجية" أوديد إينون مع ما صرح به توم براك، المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، في 29 آب الماضي، بأن "إسرائيل غير مهتمة بالالتزام بحدود الشرق الأوسط المستقرة بموجب اتفاقية سايكس-بيكو خلال الحرب العالمية الأولى، ولديها القدرة أو الرغبة في السيطرة على لبنان وسوريا"، لأن خطوط هذه الاتفاقية، بحسب نظر إسرائيل، "لا معنى لها. سيذهبون حيثما يشاؤون، وقتما يشاؤون، ويفعلون ما يشاؤون لحماية الإسرائيليين وحدودهم".
مع التدمير الإسرائيلي الممنهج للسلاح السوري (يقدّر بـ80%)، واحتلال المزيد من الأراضي السورية، والانقلاب على اتفاقية فك الاشتباك 1947، من طرف واحد، وإعلان نتنياهو إلغاءها بعد سقوط النظام البائد، لم تتوقف التصريحات الصهيونية المستندة إلى استراتيجية التفتيت، مثل تصريح وزير خارجية إسرائيل، جدعون ساعر، في كانون الأول 2024: "إن التفكير في دولة سورية واحدة مع سيطرة فعالة وسيادة على كل مساحتها أمر غير واقعي"، معتبرًا أن "المنطق هو السعي لحكم ذاتي للأقليات في سوريا وربما حكم فيدرالي". واقتراح ورد في صحيفة "يسرائيل هيوم" قدمه وزير الدفاع، يسرائيل كاتس، لنتنياهو خلال اجتماع لمجلس وزراء الاحتلال يتعلق بدور تركيا في سوريا "المهدد لإسرائيل" بعد سقوط النظام البائد، واقتراح وزير الطاقة، إيلي كوهين، في مطلع العام الحالي، بعقد مؤتمر دولي حول سوريا وتقسيمها إلى "كانتونات"، وتصريحات جدعون ساعر، في تشرين الثاني 2024، التي طالب فيها بإنشاء "تحالف بين إسرائيل وأكراد ودروز في سوريا"، و"منحهما الحماية".
ولا تتوقف تصريحات مسؤولي دولة الإبادة الجماعية عن استغلال الاشتباكات داخل سوريا في أشرفية صحنايا وجرمانا، ثم الهجوم الدموي المروع الذي قامت به عشائر من البدو والسلطات الرسمية لمحافظة السويداء، وهي مسؤولية السلطة في معالجتها ومحاسبة مرتكبيها في إطار تحقيق دولي مستقل وشفاف، وإطلاق سراح جميع المختطفين والمختطفات، وجبر ضرر جميع الضحايا، والعودة للحلول السياسية والمصالحة الوطنية، وليس التفاوض مع الاحتلال لمناقشة مستقبل السويداء. دون أن نغفل في هذا المقام إدانة من رفع علم الاحتلال وشكر قادته، ومساءلة كل الميليشيات التي تلطخت أيديها بالدماء.
إن درء الهياج الصهيوني الاستعماري المدعوم من شبكات مالية ضخمة، وفق ما يُعرف بـ"رأسمالية العرق الاستعماري"، الذي أشارت إليه ألبانيز في تقريرها المذكور أعلاه، وتذويب أذاه، يعالَج بتمتين البيت الداخلي، عبر الديمقراطية وبناء دولة الحريات والمساواة وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية وتحرير الأرض، وبناء تحالفات نضالية عابرة للحدود، تموضع فلسطين كرمز للمقاومة وأفق للتحرر.