تحل اليوم الذكرى التاسعة لإطلاق رؤية السعودية 2030، المبادرة الطموحة التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بهدف تقليل اعتماد المملكة على النفط، وتنويع الاقتصاد، ورفع جودة الحياة. وقد لعبت القطاعات غير النفطية دوراً محورياً في تحقيق هذه الأهداف، لتصبح اليوم العمود الفقري للتحول الاقتصادي والاجتماعي في المملكة.
تشمل الرؤية إعادة هيكلة شاملة للقطاع الاقتصادي، تتضمن إصلاحات تشريعية وتنظيمية. يقول الخبير الاقتصادي السعودي د. علي الحازمي لـ"النهار": "أسهمت هذه الإصلاحات في تحفيز القطاع غير النفطي، وهو ما انعكس في الأرقام والمؤشرات. وقد أشادت بها مؤسسات دولية كبرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الذي افتتح فرعاً له في المملكة لتعميم التجربة السعودية كنموذج في الإصلاح الاقتصادي".
قبل 2016، لم تكن السعودية وجهة سياحية عالمية، لكن رؤية 2030 غيّرت ذلك بإطلاق مشاريع ضخمة مثل نيوم والبحر الأحمر والعلا، وفتح أبواب المملكة للسياح عبر نظام تأشيرات إلكتروني جديد، واستضافة فعاليات عالمية كبرى مثل "فورمولا 1"، "كأس السوبر الإسباني والإيطالي"، "مهرجان MDLBEAST للموسيقى"، و"موسم الرياض". وقد ساهم ذلك في رفع مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي وتوفير فرص عمل.
ويلفت الحازمي إلى الالتزام بتحقيق مستهدفات رؤية 2030، والإعلان عن مشاريع إضافية مثل استضافة كأس العالم وإكسبو والألعاب الشتوية 2027 أو 2028. وفي مجال الاستثمارات الأجنبية، تم تسجيل أرقام إيجابية، حيث تجاوز حجم الاستثمارات في عام 2022 نحو 90 مليار دولار، مع تحسن في مؤشرات بيئة الأعمال وسهولة الدخول إلى السوق.
وضعت رؤية 2030 التحول الرقمي في صلب أولوياتها، ما أدى إلى ازدهار قطاعات مثل الحوسبة السحابية، الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني والخدمات الحكومية الإلكترونية. وشهدت السعودية قفزات نوعية في مؤشر الأمم المتحدة للحكومة الرقمية، وأصبحت شركات سعودية مثل "علم" و"سابك الرقمية" و"STC Solutions" لاعبين أساسيين في الاقتصاد المعرفي.
كذلك أُطلقت مبادرات مثل "الفضاء السعودي" و"البرنامج الوطني للتطوير الصناعي والخدمات اللوجستية" (NIDLP)، التي رسّخت مكانة المملكة كمركز تكنولوجي ناشئ في المنطقة.
وعبر برنامج "صنع في السعودية"، سعت المملكة لتعزيز الصناعات المحلية، وتقليل الاعتماد على الواردات، مع نجاحات في تصنيع المعدات العسكرية محلياً، والتوسّع في صناعة الأدوية والمستلزمات الطبية، ودعم الصناعات الغذائية والتقنيات الزراعية الحديثة.
وقد أدت هذه الجهود إلى نمو مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي، وجذب استثمارات محلية وأجنبية.
شهد القطاع المالي إصلاحات كبرى لتطوير بيئة الأعمال، وجذب الاستثمارات الأجنبية، مثل إدراج السوق المالية السعودية "تداول" في مؤشرات الأسواق الناشئة العالمية، وتأسيس بنوك رقمية محلية، وتسهيل إجراءات الترخيص المالي، وتوسيع نطاق نشاطات شركات التأمين، والتمويل العقاري.
وبفضل هذه الإصلاحات، تحسن تصنيف السعودية في تقارير سهولة ممارسة الأعمال العالمية، ما جذب رؤوس أموال جديدة، وأسهم في دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
أعادت رؤية 2030 تعريف الثقافة كمكوّن أساسي من مكونات الاقتصاد، عبر إنشاء وزارة الثقافة وهيئات متخصصة لكل قطاع (موسيقى، سينما، أزياء، مسرح…)، ما أتاح فرصاً جديدة للمواهب السعودية، وخلق وظائف حديثة لم تكن موجودة سابقاً.
وفي القطاع الرياضي، تم تعزيز الحضور السعودي في الرياضات العالمية، سواء من خلال استضافة الأحداث أو عبر الاستثمار في أندية كبرى، ما ساهم في تعزيز مكانة السعودية إقليمياً وعالمياً.
تُظهر نتائج السنوات التسع الماضية أن رؤية 2030 لم تكن مجرد شعارات، بل خطة استراتيجية قابلة للتنفيذ، قادت إلى تحوّل حقيقي في هيكل الاقتصاد السعودي.
فبحسب آخر الإحصاءات الرسمية، باتت القطاعات غير النفطية تساهم بأكثر من 50% في الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تُعد غير مسبوقة في تاريخ المملكة.
ويشير الخبير الاقتصادي السعودي إلى أنّه "كان هناك مستهدفات وضعت لتحقيقها في حلول عام 2030، إلّا أنّ العديد منها تحقق قبل هذا الموعد، ويُعزى ذلك إلى أنّ الاقتصاد كان جاهزاً للنمو، لكنّه كان بحاجة إلى إعادة هيكلة تُمكّنه من استيعاب التحوّلات الكبرى، سواء على صعيد الخصخصة، أو جذب الاستثمارات الأجنبية، أو التوسع في مشاريع البنية التحتية".
ومن أبرز التحديات التي تواجه الرؤية هي "الأوضاع الاقتصادية العالمية، والتي تُصنَّف ضمن ما يُعرف بـ'المخاطر النظامية'، وهي تلك المخاطر الخارجة عن السيطرة المباشرة، مثل ارتفاع معدلات التضخم عالمياً، الحروب التجارية، والصراعات الجيوسياسية. هذه العوامل قد تؤدي إلى انخفاض في الطلب على النفط، وبالتالي تراجع أسعاره. ومع ذلك، فإن أسعار النفط لا تزال مستقرة نسبياً عند مستويات الستين دولاراً، وهي مستويات يمكننا التكيف معها وتمويل المشاريع الكبرى من خلالها. أمّا نسب التضخم فهي لا تزال الأدنى بين دول مجموعة العشرين".
ومع اقتراب عام 2030، تتجه الأنظار نحو المرحلة التالية، حيث يُنتظر أن تجني السعودية ثمار هذا التحوّل الكامل، وتُصبح نموذجاً عالمياً في التنمية المستدامة والتنوّع الاقتصادي.