السبت, 4 أكتوبر 2025 02:46 AM

سلمى مصفي تتحدث عن زياد الرحباني: ذكريات وأغانٍ خالدة

سلمى مصفي تتحدث عن زياد الرحباني: ذكريات وأغانٍ خالدة

ينساب صوت سلمى مصفي عبر الهاتف، رقيقاً وصافياً كما عهدناه دائماً. غير أن الفقد ترك أثره في الحنجرة، فأضحى الصوت ميالاً نحو الحزن الصامت أكثر من الرنين. لنتخيل شعور سلمى مصفي عندما تسمع أغنية «بتموت» من ألبوم «مونودوز» وتتذكر زياد الرحباني. كيف يمكن لأغنيتها، أغنيته، أن تكون موجهة له؟

منذ أواخر الثمانينيات، ارتبط اسم سلمى مصفي ارتباطاً وثيقاً بزياد الرحباني، إلى حد صارت عبارة «ألو سلمى» تحيل إلى عالم جمع الاثنين معاً، إذ تعيد إلى الأذهان «العقل زينة»، وتستدعي معها الذكريات على الفور.

لم نقل لها «ألو سلمى»، فالـ«العبقري الراحل» يملك ما يشبه الحق الحصري لهذه العبارة: الـ«ألو» وحدها تكفي. أما بعد، فـ«شكراً على قبولك، أنتِ سلمى مصفي الذي نسمعك منذ المراهقة على إجراء هذه المكالمة» واكتفينا بتوضيح غايتنا المنشودة.

كان الهدف من التواصل مع سلمى مصفي هو العودة في الذاكرة، إعادة الذكريات، إلى حياة بدت صناعة الفن فيها روتيناً يومياً ممتلئاً بأحداث لا تنسى؛ إلى مسار فني متألق يحتاج إلى أكثر من مكالمة واحدة، بل إلى ساعات طويلة من الحكي لاقتفاء تفاصيله.

بدماثة وتواضع يوحي بهما ذاك الوجه المشع الذي تصدر غلاف «مونودوز»، أول ما بادرت سلمى مصفي إلى قوله: «أقدم تعازيّ الحارة للجميع بوفاة زياد الرحباني». هكذا، بدأنا بتقديم واجب التعزية فصرنا نحن من نستقبل التعازي.

بادئ ذي بدء بهذه الخفة والعفوية، فتحت سلمى مصفي لنا باب الكلام. إنها «سلمى» في نهاية المطاف. تلك الشابة البيروتية «العصرية»، التي «صنعت عقلها بيديها» كما نقول بالعامية. هي تفضل أن تكون الأشياء «خفيفة»، وتضيق ذرعاً بالمواقف الثقيلة والأحاديث المتكلفة؛ متحررة من حواجز عرفها المجتمع اللبناني قبل الحرب وأثناء الحرب الأهلية. «لا تفرق معها» كثيراً، وإذا «فرقت معها» تهدد بالرحيل.

على هذا النحو عرفناها في «العقل زينة» و«لولا فسحة الأمل»، وهي تعترف بأن هناك ما هو «صحيح» (حقيقي) في هذا الدور/الشخصية. «اعتاد زياد أن يكتب أدوار الشخصيات بعد أن يتعرف إلى الشخصيات التي ستلعب الأدوار التمثيلية». واقعية زياد الرحباني تفرض على كتابته «وجود» الأشخاص قبل إضفائه أي ملمح أو مزية على الدور الذي سيؤدونه. لذلك مثلما «هو يشبه أدواره في المسرح، فالأدوار الذي لعبها الممثلون كانت تشبه حقيقتهم أيضاً» تقول.

لم تنوِ مصفي دخول عالم التمثيل والمسرح وأن يصير هذا العالم عالمها. صوتها قادها إلى هناك. في الجامعة حيث درست «الإعلام وتقنيات التواصل»، التحقت ببعض صفوف المسرح مع زياد أبو عبسي مدفوعة بالفضول وبحبها للمسرح.

عند لفظها اسم زياد أبو عبسي، أخذت سلمى مصفي نفساً عميقاً وتنهدت، كأن وخزاً أصاب روحها. هم أشخاص استثنائيون صنعت معهم سلمى مصفي زمناً خاصاً، وقد أصبحوا مجرد ذكرى، أشباحاً نحاول مطاردتهم بعدما غيبهم الموت عنا. هي مرحلة تبددت، بل ماتت، ولم يبق سوى حاضر يفيض بالحنين. «من الصعب قولها، لقد كانت حرباً ولكنها كانت أياماً جميلة». في تلك الأيام، كان المستحيل الفن ممكناً بفضل هؤلاء.

«العقل زينة» و«محادل» الأيام «كنا نجلس كفريق يسوده التناغم. جميع الاسكتشات في «العقل زينة» كانت مكتوبة، لم يترك المجال للارتجال إلا لزياد الرحباني وزياد أبو عبسي». وتضيف «امتاز زياد بسرعة بديهة رهيبة، كان يكتب بخفة ورشاقة وسرعة. ينسحب زياد يخرج إلى غرفة أخرى ليعود وفي يده اسكتش جاهز». في برنامج «العقل زينة»، تحول زياد أبو عبسي من أستاذ سلمى مصفي، إلى زميل لها، ثم صار صديقاً مقرباً. ووراء كل هذا المناخ وقف زياد الرحباني كمايسترو يسيل الإيقاع ويضبطه.

كانت سلمى مصفي في الجامعة تقيم حفلات غنائية مع فرقتها أي أصدقائها، حين تعرفت إلى زياد الرحباني الذي جاء في إحدى المرات إلى مسرح الجامعة وشاهد عرضاً لهم. أعجب بصوتها وعلى إثر ذلك دعاها إلى استوديو «باي باس» فلبّت مصفي الدعوة. حدث ذاك عام 1985، ومن هناك بدأت الرحلة. «زياد كان معجباً بالأصوات غير التقليدية، وما أعنيه أنه كان يحب الأصوات التي لا تشبه ما هو سائد ومألوف».

لعل التعاون «الجدي» الأول بينهما بدأ في أغنية «روح خبر»، إذ شاركت سلمى في تسجيلها مع الكورس «علماً أن الأغنية كانت ناجزة لأن ألبوم «هدوء نسبي» كان خالصاً وجاهزاً» كما تقول.

سيحفز صوت سلمى مصفي «غير التقليدي» زياد الرحباني على توظيفه في مساحات موسيقية أرحب، وفي إيقاعات تناسب العالم الموسيقي التي جاءت منه. من الكورس انتقلت سلمى إلى الواجهة الأمامية كمطربة «صوت». كانت المؤدية التي وضعت صوتها الفريد «على» موسيقى «رمادي ع رصاصي»؛ القطعة الموسيقية الرائعة التي صدرت في تسجيل «موسيقى على قيد الحياة من بيروت»، وكان أول عمل موسيقي جمعهما.

زياد الرحباني الذي سمع سلمى مصفي تغني مع فرقتها «أغنيات غربية»، كان مدركاً بشكل حتمي بطبيعة «الحنجرة»، أي نوعية «الأداء» والقدرة الصوتية التي تتمتع بها سلمى، وبالتالي الرونق الموسيقي المناسب لها.

ليس غريباً إذن، أن تجيء المشاركة الأولى بينهما على لحن أغنية جو سامبل «روح خبر» (soul shadows) وأن يكون التعاون الأول بينهما على موسيقى فانك تشبه أعمال المغنية تينا ماريا. غير أن زياد الرحباني الذي كان مشغولاً في أنواع وأساليب موسيقية متعددة ومختلفة، أدخل صوت سلمى مصفي إلى فضاءات موسيقية أبعد من حدود «الغربي».

ستقيم حفلة في باريس في تشرين الثاني بعنوان «يا ضيعانو»

أغنية «في مديح الظل العالي» الذي وزعها الرحباني وأداها خالد الهبر، كانت سلمى قد شاركت فيها في الكورس، مثلما شاركت كمغنية رئيسية وكواحدة من أعضاء الكورس كذلك في «حكايا الأطفال»، الألبوم الذي كتب أغانيه المسرحي عبيدو باشا ولحنها زياد الرحباني.

«ثم لا تنسى، فقد اشتغلنا في أواخر الثمانينيات في سوق الإعلانات كثيراً»، تقول. حسناً، لكن في رأيكِ لماذا لم يكثف زياد الرحباني إنتاجه لأغنيات تشبه تلك التي وجدت في «هدوء نسبي»، مثل «ما تفل» و«خلص» وغيرها، يعني لماذا لم يمدد من عمر هذا الأسلوب الموسيقي والغنائي؟ نسألها.

«لا أعلم، هو سؤال يحيرني أيضاً» تجيبنا وتردف «حتى التسجيلات المصورة أو الصوتية كلها، لا أملك منها شيئاً. اعتاد زياد أن يسجل كل شيء ويحتفظ به في الاستوديو».

«أنا (أيضاً) عندي الحنين» نكرر على مسامع سلمى مصفي ما اعترف به زياد الرحباني في مقابلة أجراها على قناة «إن. بي. إن» اللبنانية، حين أفاد أنه يعجز عن التأليف والإبداع إذا لم يكن محاطاً بموسيقيين.

بدا إفصاحه هذا كأنه دعوة مضمرة للأصدقاء القدامى، لأصدقائه الفنانين الذين رافقوه منذ أواخر السبعينيات حتى مطلع التسعينيات، دعوة للملمة الشمل واستعادة ما كان يجمعهم. كان هناك جو خاص، مناخ، فلنقل مزاجاً، وقد كانت مصفي واحدة من هذا «الفريق» الذي افتقده الرحباني لاحقاً.

«تماماً. لقد التقيت بزياد عام 2019، لقد تعاونّا في الحفلات الأوروبية، وبوسعي جزم الموضوع. لقد كان زياد في ذاك الوقت، يشعر بنوستالجيا رهيبة إلى تلك المرحلة».

سلمى مصفي أيضاً تشعر بهذه النوستالجيا. «في الثمانينيات، كان زياد محاطاً بفنانين وموسيقيين لأنهم كانوا جميعهم في لبنان. توفيق فروخ كان لا يزال في لبنان والآخرون أيضاً. لكن لاحقاً في التسعينيات، هاجر معظمهم، وأنا كنت واحدة منهم».

تذكرنا سلمى مصفي أن زياد الرحباني عنون حفلاته الأوروبية بـ«تحية إلى جو سامبل». جاء هذا العنوان ليس لأن سامبل توفي قبل الحفلات بمدة وجيزة، إنما لأن زياد كان يحن إلى المرحلة التي كان فيها شبح جو سامبل هائماً في الاستوديو. «الريبيرتوار الموسيقي لتلك الحفلات استمده زياد كله من ذاك المناخ» تقول.

لا تشعر سلمى مصفي بالحنين إلى تلك المرحلة فقط، بل تشعر بقساوة الفقدان الذي خلفه رحيل العبقري الذي كتب حياتنا ومصيرنا. تستحضر مسرحية الرحباني الأخيرة «كل ما ورد فيها قد تحقق بالفعل. لا أقول ذلك لأنني تركت البلد كما نص الدور الذي أديته في المسرحية، بل راجعوا المشهد الأخير، لقد جاءت النهاية مطابقة للواقع اللبناني».

بعد ألبوم «بما إنو» الذي كان آخر عمل جمع الرحباني وسلمى بعد عشرة أعوام من مسيرة فنية متواصلة، هجرت سلمى مصفي لبنان في التسعينيات، تزوجت رجلاً فرنسياً، واستقرت في فرنسا. لكنها بقيت تزور لبنان دورياً، وقد كانت تلتقي بزياد كلما عادت. في إحدى المرات، اقترح زياد عليها تسجيل ألبوم. كانت حجته كما تفصح سلمى، بداعي «التسلية» و«التجريب».

الظاهر أن الرحباني الذي عرفت مسيرته الفنية المنفردة ابتعاداً جزئياً عن الرونق «الغربي» (ألبوم «بما إنو»، وقبله «أنا مش كافر») كان يشعر بنوستالجيا إلى تلك الموسيقى، الى ذاك التجريب، فحضرت سلمى مصفي وملأت الفراغ. خرج «مونودوز» الذي بدأ باللهو والتسلية، كما تقول، وكان «الضربة الكبيرة»: ألبوم جريء حد الجنون، غريب الأطوار، مضاد للسائد.

حين نستحضر ألبوم «مونودوز»، يخرج كلام سلمى مصفي سريعاً وسائلاً، الكلام هنا فائض. تتحدث عن «مونودوز» ببهجة، بصوت مغمور بنبرة الفخر، كأن هذا الألبوم بالنسبة إليها لهو إنجاز فريد لا يضاهيه شيء على الإطلاق. أليست محقة في هذا الشأن؟ ففي «مونودوز» أثبتت سلمى مصفي أنها صوت مائز في الغناء العربي، كما اتضح أنها «أسترود جيلبرتو» التي اشترطته مسيرة زياد الرحباني.

لاحقاً على «مونودوز»، أصدرت سلمى مصفي ألبوم «سلمى نوفا»، ضم أغنيات من كتابة سلمى مصفي جاءت على ألحان (أغاني) «بوسا نوفا».

لا تملك سلمى مصفي أياً من التسجيلات المرئية أو المسموعة كما سبق أن صرحت، وهي مثل كثيرين منا، محتارة بشأن أرشيف زياد الرحباني، وتخشى أن يكون مصير هذا الكنز الضياع أو الطمس المؤبد. ورغم كل الفقدان وأخبار الموت، سلمى مصفي بصحة جيدة، وهي في المناسبة، ستقيم حفلة في باريس في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل عنوانها «يا ضيعانو». مَن يستطيع الحضور فليحضرها، وهذا ترويج لها!

مشاركة المقال: