الإثنين, 25 أغسطس 2025 01:31 PM

سوريا: أطباء أسنان في مهمة إنسانية للتعرف على ضحايا المقابر الجماعية وإعادة الأسماء المنسية

سوريا: أطباء أسنان في مهمة إنسانية للتعرف على ضحايا المقابر الجماعية وإعادة الأسماء المنسية

بعد سنوات من الصمت والخوف، بدأت الحقائق المروعة تتكشف في سوريا. فمنذ سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، بدأت المقابر الجماعية والجماجم المثقوبة تروي قصص المختفين. هرعت العائلات للبحث بأيديها عن أي أثر لذويهم، وفي خضم هذه الفوضى، يواجه السوريون رعبًا مدفونًا ووجعًا مستمرًا.

وسط هذه الظروف الصعبة، كشفت صحيفة “التايمز” البريطانية في تحقيق من دمشق أن 25 طبيب أسنان يقودون مهمة إنسانية للتعرف على ضحايا المقابر الجماعية. يحاول هؤلاء الأطباء، وسط العظام والجماجم، إعادة الأسماء والكرامة للمجهولين الذين اختفوا في عهد الرعب.

في أحد الأقبية بدمشق، يعمل ثلاثة أطباء أسنان، هم الدكتور أنس الحوراني والدكتور أحمد نعيم والدكتور عامر السراجيبي، بصمت وألم فيما يسمى “غرف العظام”. يسعى هؤلاء الأطباء إلى إعادة الأسماء والقصص لمن اختفوا في الظلام، ومنح العائلات إجابة وكرامة أخيرة لضحايا لم يتم توديعهم.

يكسب هؤلاء الأطباء 30 دولارًا شهريًا من عملهم في مركز تحديد الهوية التابع لوزارة الصحة السورية، بالإضافة إلى عملهم في عيادات أسنان خاصة. وهم مكلفون بتحديد هوية واحدة من أكبر مجموعات المفقودين في العصر الحديث.

توجد على طاولتين طويلتين في إحدى الغرف صفوف من عظام الساق والفخذ، مرقمة بعناية. وفي الغرفة المجاورة، توجد خزائن مليئة بالجماجم، معظمها بها ثقوب في مؤخرة الرأس ناتجة عن إعدامات من مسافة قريبة، بحسب الدكتور أنس الحوراني.

يقول الدكتور أحمد نعيم، وهو يفحص عظمة ساق للتأكد من التحامها ومعرفة ما إذا كانت تعود لطفل: “العظام تحكي لنا قصة شخص”. يقوم بقياس العظام والاستعانة بكتاب في علم الطب الشرعي لتحديد العمر والطول والجنس.

وبغض النظر عن التشريح، فإن القصص مروعة. تعود هذه العظام إلى بعض من عشرات الآلاف من المتظاهرين والنشطاء الذين اعتقلهم جهاز الأمن التابع لبشار الأسد وعذبهم وألقى بهم في مقابر جماعية منذ بداية الثورة في آذار/مارس 2011 وحتى الإطاحة به.

في غرفة أخرى، توجد كومة من الملابس المحترقة وهيكل عظمي أعيد تجميعه من 50 كيسًا بلاستيكيًا مليئًا بالعظام المختلطة التي جلبتها منظمة الخوذ البيضاء السورية. عُثر على الرفات في قبو مبنى مهجور بالقرب من حاجز سبينة، جنوب دمشق، حيث كانت قوات النظام تعتقل الناس وتقتلهم وتحرق جثثهم.

يقول نعيم: “كأننا نعيش الرعب من جديد كل يوم. بينما يحتفل بقية السوريين بالتحرير، ما زلنا في خضم الحرب، ونعيش يوميًا ذكريات تلك السنوات الـ 14 الشريرة”.

وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أكثر من 155 ألف مفقود، لكن وفقًا لمدير مكتب سوريا في اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، مازن البلخي، قد يصل العدد الإجمالي إلى 700 ألف. وأشار البلخي إلى أن التعامل مع هذا الأمر قد يستغرق عقودًا لأن سوريا لا تملك القدرة أو الخبراء الجنائيين.

في ضوء ما كُشف عن المقابر الجماعية وضحايا النظام السابق وعمليات التعذيب والقتل، يُطرح السؤال التالي: هل هناك محاولات قانونية لمحاسبة الأسد أمام محاكم دولية؟

يقول الباحث في المركز العربي للأبحاث في واشنطن، الدكتور رضوان زيادة، إن هذا خيار قائم ولكن سوريا ليست طرفًا في محكمة الجنايات الدولية.

ويضيف زيادة: “ربما تنضم لكن هذا يحتاج إلى دعم سياسي قوي… وبالتالي يمكن لمحكمة الجنايات أن تفتح تحقيقًا في الجرائم المرتكبة في سوريا”.

ويتابع: “برأيي يبدو خيارًا ضعيفًا الآن لأنه ليس هناك دعم سياسي لهذه الخطوة من الحكومة الحالية… لكن لا يزال ممكنًا”.

مع عدم توفر تحليل الحمض النووي في سوريا (لا يوجد سوى مختبر صغير واحد والمواد الكيميائية اللازمة غير مسموح بدخولها بسبب العقوبات)، فإن سجلات الأسنان هي الطريقة الرئيسية للتعرف إلى الأشخاص.

في سوريا بأكملها، لا يوجد سوى 25 طبيب أسنان شرعيًا، بمن فيهم هؤلاء الثلاثة. يعملون عن طريق أخذ القياسات ثم الرجوع إلى الكتب والموارد على الإنترنت، وهي عملية بطيئة ومضنية.

مصير المفقودين هو إحدى أولويات الإدارة الجديدة للرئيس السوري أحمد الشرع، الذي أنشأ لجنة وطنية للمفقودين وأخرى للعدالة الانتقالية. حتى الآن، تم تحديد 78 مقبرة جماعية، بعضها يحتوي على خنادق يصل طولها إلى 300 قدم وعمقها 13 قدمًا، مملوءة بالجثث. حتى إن هناك مقابر جماعية في دمشق.

وقال الدكتور عامر السراجيبي: “المشكلة هي أنه بعد سنوات من الصمت، لم يبلغ العديد من الأقارب عن المفقودين خوفًا من اعتقالهم أيضًا، والناس لا يريدون الانتظار، عندما تحررت سوريا، اعتقد الجميع أنهم سيستعيدون أفراد أسرهم”.

في غضون ساعات من سقوط الأسد، فُتحت السجون، بما في ذلك سجن صيدنايا، الأكثر شهرة، الذي وصفته منظمة العفو الدولية بأنه “مسلخ للبشر”. وكان في ثلاجته 36 جثة حديثة. وبعدما بثت قناة “الجزيرة” بثًا مباشرًا من مقبرة جماعية، هرعت مئات العائلات إلى هناك وبدأت بحفر الأرض بأظافرها.

اللجنة الدولية للصليب الأحمر أرسلت خبراء من بيرو والأرجنتين والبوسنة، التي عانت أيضًا من اختفاء أعداد كبيرة من الأشخاص، للمساعدة في تقديم المشورة بشأن الأساليب وكيفية التعامل مع الأسر المصابة بصدمة نفسية، لكن الأطباء قالوا إنه لا أحد يفكر في صدمتهم النفسية التي يواجهونها بسبب ذلك. وشرح نعيم: “نحن تحت ضغط نفسي هائل. الأسر بحاجة إلى معرفة ما حدث، ونحن نعمل ليل نهار، لكن الأمر سيستغرق عقودًا، ومن الصعب تحمل رؤية مثل هذه الفظائع عن قرب”.

بدوره، أكد السراجيبي أن “مواجهة واقع آلة الموت التي أنشأها الأسد عن قرب كل يوم أمر مدمر”.

في سوريا ما بعد الأسد، لا تزال الحقيقة تُنتشل من تحت التراب. طريق العدالة طويل، لكن كل عظمة تُحدَّد هويتها تُعيد إنسانًا من طيّ النسيان. يسابق الأطباء الزمن لكشف مصير المفقودين. في وطن مُثخن بالمقابر، تبقى الحقيقة والكرامة آخر ما يمكن إنقاذه من ركام الموت.

أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار

مشاركة المقال: