جنى العيسى | حسن إبراهيم | أمير حقوق | زينب ضوا تتجه أنظار المستثمرين الدوليين والإقليميين إلى سوريا وهي تدخل الآن مرحلة ما بعد الصراع، بعد أن دمرت الحرب اقتصادها، وكان يُنظر إليها قبل نهاية العام الماضي على أنها ملف سياسي جامد غير واضح الأفق. سقوط النظام السابق والفرصة السياسية التي أقرت دول كبرى منحها للإدارة الجديدة في سوريا، كثفت الدعوات للاستثمار في البلاد، سواء على المستوى الأممي أو الدولي أو المحلي.
وبينما قدّر وزير الاقتصاد والصناعة السوري، محمد نضال الشعار، خلال مشاركته في “القمة العربية للإعلام 2025″ بدبي، في 28 من أيار الماضي، أن سوريا تحتاج إلى تريليون دولار على الأقل لإعادة بناء اقتصادها، وقعت الحكومة السورية، خلال الشهر نفسه، اتفاقيات بمليارات الدولارات في مجالات استثمار الطاقة والمواني والمدن الصناعية مع كبرى الشركات العالمية.
رغم هذه الدعوات والرغبة القوية في الاعتماد على الاستثمار الخارجي كركيزة أساسية لدفع عجلة النمو الاقتصادي في سوريا، يرى الخبراء أن البيئة الاستثمارية الجاذبة يهددها غياب قوانين واضحة للاستثمار، والتي شرعت الحكومة بتطويرها لتتناسب مع احتياجات البلاد.
تحاول عنب بلدي في هذا الملف رصد واقع الاستثمار في سوريا، مع الإشارة إلى أبرز الفرص والقطاعات المتاحة، بالإضافة إلى قراءة دوافع ومعوقات المستثمرين، إلى جانب المغريات والتسهيلات التي ينتظرونها، واستعراض السيناريوهات المحتملة لمستقبل الاستثمار في البلاد.
فرص واعدة.. أبواب الاستثمار “مشرعة”
لا يُمكن ترك مهمة البلدان النامية الفقيرة، وخاصة تلك الخارجة من سنوات الصراع، لقوى السوق وحدها، إذ ينبغي أن تسعى البلدان الخارجة من الصراع إلى بناء دولة ذات مؤسسات فعّالة تُعزز الثقة في قطاع الاستثمار دون اختناقات إدارية، ودون مقايضة رفاهية السكان بالتنافس على رأس المال الأجنبي، وفق موجز سياسة البلدان الخارجة من الصراعات والاستثمار الأجنبي المنشور في جامعة “الأمم المتحدة“.
يعرف الاستثمار المباشر بأنه استثمار يقوم به فرد أو مؤسسة في أصل إنتاجي أو منشأة في دولة ما، بحيث يمتلك المستثمر تأثيرًا إداريًا على المشروع الذي استثمر فيه.
يختلف الاستثمار المباشر عن الاستثمارات المالية التقليدية في أنه يسهم بشكل مباشر في إدارة وتشغيل المشروع، وغالبًا ما يتضمن نقلًا للتكنولوجيا والخبرات الإدارية.
يحدث الاستثمار المباشر عندما يحصل مستثمر (فرد أو شركة) من بلد ما على مصلحة دائمة، ونوع من التأثير بمنشأة تجارية في بلد آخر.
ويمكن أن يأخذ الاستثمار المباشر عدة أشكال، مثل إنشاء عمليات جديدة تمامًا، أو الاستحواذ على مشاريع قائمة من خلال الاندماجات والاستحواذات، أو ضخ رؤوس أموال إضافية في مشاريع قائمة.
تعد سوريا من الدول التي تمتلك العديد من الإمكانات الاقتصادية والموارد الطبيعية، التي تتيح فرصًا استثمارية واعدة، خاصة في مرحلة إعادة الإعمار المقبلة. وتجمع سوريا بين موارد طبيعية غنية، وموقع جغرافي استراتيجي، يجعلها مركزًا مهمًا للتواصل التجاري بين الشرق والغرب، الأمر الذي يعزز من جاذبيتها ويجعلها محط أنظار المستثمرين. تمثل الفرص الاستثمارية عناصر رئيسة، يمكن من خلالها تحقيق التنمية الاقتصادية والنهوض بمستوى معيشة السكان في أي دولة، وخاصة في ظروف التعافي وإعادة الإعمار مثلما تمر به سوريا، وما زاد من جاذبيتها مؤخرًا رفع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة في عهد النظام السابق.
المستشار التنفيذي في وزارة الاقتصاد والصناعة، والباحث الاقتصادي مناف قومان، قال لعنب بلدي، إن الفرص الاستثمارية في سوريا متعددة ومتنوعة تتمثل بعدة قطاعات أبرزها:
● الزراعة: التي ستركز على إعادة إحياء الإنتاج المحلي، والاستثمار في سلاسل القيمة الزراعية.
● الطاقة المتجددة: مثل الاستثمار في بدائل الطاقة، من الشمس والرياح، لتجاوز الانقطاعات في الشبكة الكهربائية.
● الصناعة التحويلية: خاصة الصناعات الغذائية والنسيج والأدوية والمعدات وغيرها.
● الخدمات المالية والتكنولوجيا: وهذا القطاع يحمل فرصة لبناء مؤسسات مالية جديدة، وتطوير حلول دفع إلكتروني، وتحول رقمي في دولة تحتاج إلى بنية مالية حديثة.
● القطاع العقاري: يعتبر إحدى الفرص الاستراتيجية، حيث تحتاج سوريا إلى إعادة إعمار مدن وبلدات تضررت بسبب الحرب.
فيما يوضح الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي، الدكتور مجدي الجاموس، لعنب بلدي، أنه يمكن تلخيص أبرز الفرص الاستثمارية الموجودة في سوريا ضمن محورين، أولهما “ترصيف” البنية التحتية، وهي المفاصل التي تعتبر حاملة الاقتصاد الوطني، والتي تسمى “قواعد البنية التحتية للاستثمار”، وهي بحاجة إلى شركات استثمارية كبرى على مستوى العالم.
فيما يتمثل المحور الثاني بقطاع الطاقة، وذلك عبر توسيع الإنتاجية السورية من الطاقة، كالكهرباء والنفط والمواني، وفي مجال المناطق الحرة.
وزير الطاقة السوري محمد البشير خلال تدشين محطة تحويل “عربين” – 6 أيار 2025 (وزارة الطاقة السورية)
قطاعات ذات أولوية
تمتلك سوريا تنوعًا في القطاعات الاقتصادية، إذ تختلف أولوية القطاعات في الاستثمار، تبعًا لنوع القطاع ومدى تأثيره بالحركة الاقتصادية العامة. الدكتور مجدي الجاموس يرى أن أهم القطاعات التي يُنظر إليها كمحركات رئيسة للاستثمار في سوريا اليوم هي القطاع العقاري، ثم المالي، والسياحي، وذلك مع بدء إقبال السوريين المغتربين، ورجال الأعمال العرب وغيرهم، إذ يصبح الاستثمار بالمنشآت السياحية كالفنادق والمطاعم والمناطق السياحية خطوة مهمة.
ويتفق مجدي الجاموس على أن القطاعين الزراعي والصناعي يعتبران أساس التعافي الاقتصادي، وذلك من خلال الاستثمار بالمناطق الصناعية، لافتًًا إلى أن أهم خطوة هي إعادة تأهيل المناطق الصناعية المدمرة.
ويعتبر الجاموس أن كل القطاعات السورية بحاجة للاستثمار، باعتبارها شبه منهارة، لأن الاقتصاد بعهد النظام السابق وصل إلى حد الانهيار، وكان يعمل فقط على الحفاظ على مؤسسات الدولة بحدها الأدنى.
كل القطاعات السورية بحاجة للاستثمار باعتبارها شبه منهارة، لأن الاقتصاد بعهد النظام السابق وصل إلى حد الانهيار، وخطته كانت الحفاظ على مؤسسات الدولة بحدها الأدنى.مجدي الجاموسخبير اقتصادي
عوائد جيدة
نائب عميد كلية الاقتصاد بجامعة “حماة”، والخبير الاقتصادي الدكتور عبد الرحمن محمد، قال لعنب بلدي، إن القطاعات التي تحتاج إلى استثمارات جديدة متعددة، وتعتبر بعض القطاعات أكثر جاذبية من غيرها بناء على الاتجاهات الاقتصادية الحالية والاحتياجات المستقبلية. وتعد هذه القطاعات فرصًا واعدة للمستثمرين الذين يسعون لتحقيق عوائد جيدة، والمساهمة بالتنمية الاقتصادية المستدامة في سوريا.
ومن أبرز هذه القطاعات، وفق ما ذكره الخبير عبد الرحمن محمد، قطاع التكنولوجيا والاتصالات الذي يشمل مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المالية، والأمن السيبراني، بالإضافة إلى قطاع الصحة الذي يتضمن إنشاء المستشفيات، والعيادات، والمراكز الصحية المتخصصة، ومع تزايد الطلب على خدمات الرعاية الصحية، يعتبر هذا القطاع من القطاعات الحيوية التي تحتاج إلى استثمارات كبيرة، بالإضافة إلى قطاع التعليم.
لضمان تحقيق أفضل النتائج في استثمار القطاعات ذات الأولوية في سوريا يجب اتباع عدة خطوات:
● تحديد الفرص: يجب على المستثمرين دراسة السوق المحلية والدولية، لتحديد الفرص المتاحة في القطاعات المذكورة.
● التعاون مع الجهات الحكومية: من المهم التواصل مع الهيئات الحكومية المعنية، للحصول على المعلومات اللازمة حول القوانين والتشريعات التي تحكم الاستثمار في كل قطاع.
● تقديم دراسات جدوى: إعداد دراسات جدوى شاملة لتقييم العوائد المحتملة والمخاطر المرتبطة بالاستثمار.
● استغلال التسهيلات الحكومية بشكل أمثل: العديد من الدول تقدم حوافز ضريبية وإعفاءات للمستثمرين، ما يمكن أن يعزز من جدوى الاستثمار.
● تطوير الشراكات: يمكن أن تكون الشراكات مع الشركات المحلية أو الدولية وسيلة فعالة لتقليل المخاطر وزيادة فرص النجاح.
د. عبد الرحمن محمدخبير اقتصادي
فرص عاجلة
في بلد كسوريا دُمرت فيه معظم البنى التحتية للقطاعات الرئيسة، يحتاج الاستثمار إلى إعادة تنشيط عدد من القطاعات العاجلة، من أجل فتح الباب واسعًا أمام دخول الاستثمارات الكبرى. وهنا تبرز الحاجة إلى ترميم القطاعات التي تُعدّ مفتاحًا لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
الخبير الاقتصادي مجدي الجاموس، يرجح أن واقع الاستثمار السوري بحاجة إلى ما يدعى” رافعة اقتصادية”، أي نجاح الاستثمار بقطاع ما، يؤدي إلى نجاح وتفعيل إنتاجية كل القطاعات، باعتبارها جميعها هشة.
الفرص الاستثمارية التي تحتاج إليها سوريا اليوم لإعادة استئناف النشاط الاستثماري، ولتفعيل التعافي الاقتصادي، وفق ما يرى الخبير، تتمثل في:
● القطاع المالي: يعد فرصة استثمارية مهمة جدًا، وذلك من خلال فتح فروع من البنوك والمصارف العالمية، وعبر شركات مالية كبيرة.
● القطاع السياحي: قادر على إدخال عملة أجنبية بنسبة كبيرة، وهو قادر على تشغيل عدد من المرافق، كالفنادق والمنتجعات والمدن السياحية وغيرها.
● القطاع التكنولوجي والاتصالات والذكاء الاصطناعي: يشكل فرصة مهمة في سوريا اليوم، كون القاعدة موجودة ولكن تفتقر للأدوات، ويمكن أن يكون رافعة الاقتصاد، لأن نجاحه يؤثر على بقية القطاعات، كالصناعي والزراعي والسياحي.
معمل الصابون يعود للعمل في مدينة حمص – 23 أيار 2025 (وزارة الاقتصاد السورية)
ظروف “جذابة”.. الطريق ليس معبّدًا
شكّل سقوط نظام الأسد، والخطوات الحكومية اللاحقة، ورفع العقوبات الغربية عن سوريا انطلاقة للاستثمار في بلد كان الأسد ورجالاته يحكمون قبضتهم على ثرواته واقتصاده، ليعود اليوم وجهة وفرصة استثمارية للدخول إلى أسواقه لأسباب عدة، منها وفرة الموارد الطبيعية والبشرية، والتكلفة المنخفضة للاستثمار، فالأيدي العاملة متوفرة، ويمكن الحصول على أراضٍ ومرافق بأسعار تنافسية، كما انفتحت أبواب الاستثمار في مختلف القطاعات والمجالات.
الظروف السائدة في البلدان الخارجة من الصراعات تجعلها إلى حد كبير جذابة فقط لأشكال معينة من الاستثمار الأجنبي المباشر ذات إمكانيات تحويلية محدودة، ونادرًا ما تكون أفقر البلدان جاذبة للشركات متعددة الجنسيات الباحثة عن أسواق وأرباح، إلا إذا كانت تلك البلدان تتمتع بموارد طبيعية وفيرة، وفق موجز سياسة البلدان الخارجة من الصراعات والاستثمار الأجنبي المنشور في جامعة “الأمم المتحدة“.
على سبيل المثال، تعرض قطاع النفط والغاز للاستهلاك والاستثمار الجائر، ولحقت به أضرار كبيرة خلال السنوات السابقة مع استمرار تعدد القوى المسيطرة على الأراضي السورية، وطالت هذه الأضرار الحقول والمنشآت وخطوط النقل، حيث يوجد 106 حقول نفط وغاز في سوريا.
ويبقى قطاع النفط والغاز أهم القطاعات الاقتصادية المرشحة لتكون أول روافع الاقتصاد السوري خلال فترة إعادة الإعمار في السنوات المقبلة، خاصة في حال نجاح الإدارة السورية الجديدة بإعادة إنتاج النفط والغاز في مستوياته الطبيعية التي كانت قبل عام 2011، وهو ما يتطلب البحث عن فرص التعاون والاستثمار الفعّال الذي لا بد أن يسبقه الاستقرار الأمني والسياسي.
لا يخفى على أحد أن القوى العاملة المتوفرة والرخيصة نسبيًا في سوريا تخلق ميزة تنافسية للمستثمرين، كما أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لسوريا كبوابة برّية بين الخليج وأوروبا، يتيح تحويلها إلى محور ترانزيت وتجميع صناعي.مناف قومانباحث اقتصادي
الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” مناف قومان، يرى أن دوافع المستثمرين للدخول إلى سوريا آتية من رفع العقوبات الذي شكل نقطة تحوّل كبيرة، فسوريا اليوم بحاجة لإعادة الإعمار، التي تعني مشاريع بعشرات المليارات في البنية التحتية والإسكان والطاقة والنقل، والفرص الكامنة في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات اللوجستية.
وقال قومان لعنب بلدي، إن أحد الدوافع المهمة للاستثمار يكمن في رغبة الحكومة الجديدة باعتماد نموذج السوق الحرة مدعومًا بإصلاحات قانونية، ومناخ استثماري جاذب.
زيارة ميدانية لتقييم آبار النفط في حقول دير الزور – 25 أيار 2025 (وزارة الطاقة السورية)
تحديات قانونية وأمنية وإدارية
رغم رفع العقوبات، لا تزال بعض العقبات والتحديات التي تعترض طريق المستثمرين في سوريا، إذ اعتبر مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، كرم شعار، أن ترخيص رفع العقوبات الأمريكية أمر إيجابي ولا يزال خطوة في طريق طويل، وذكر أن الاستثناء أو الإعفاء من قانون “قيصر” (180 يومًا) مدته قصيرة، ولا يُشعر المستثمرين بالأمان في سوريا، وربما النشاط في بعض الاستثمارات لا يبدأ، مع توقعات باستعداد أو رغبة الدول العربية بالاستثمار في سوريا بدرجة أولى، ثم الدول الأوروبية.
تعريف مناخ الاستثمار المناسب حسب تعريف المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، ينصرف تعبير مناخ الاستثمار إلى مجمل الأوضاع والظروف المكونة للمحيط الذي تتم فيه العملية الاستثمارية، وتأثير تلك الأوضاع والظروف سلبًا وإيجابًا على فرص نجاح المشروعات الاستثمارية، وبالتالي حركة واتجاهات الاستثمارات.
تشمل تلك الأوضاع الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، كما تشمل الأوضاع القانونية والتنظيمات الإدارية في البلاد، إذ تؤثر هذه العناصر ببعضها، ما يخلق أوضاعًا جديدة بمعطيات مختلفة تترجم في محصلتها إلى عوامل جذب أو نوازع طرد لرأس المال.
الباحث الاقتصادي مناف قومان، ذكر أنه حتى مع رفع العقوبات، لا تزال هناك تحديات جادة لجذب المستثمرين، مثل غياب منظومة قانونية محدثة وجاذبة، إذ لا تزال البيئة القانونية بحاجة لإصلاحات كبيرة لضمان حقوق المستثمرين وتسهيل الإجراءات.
وأضاف أن سوريا تعاني من ضعف البنية القضائية وآليات فض النزاعات، ما يجعل المستثمرين حذرين عند غياب الثقة في تنفيذ العقود، وهناك طبعًا الفساد الإداري والإجرائي المتراكم، والذي يتطلب معالجة متأنية.
وذكر الباحث أن من بين التحديات هشاشة النظام المصرفي، والمخاوف المرتبطة بالتعقيدات الأمنية وعدم اكتمال الاستقرار السياسي في بعض المناطق.
وعن مدى تأثير البنية التحتية المتضررة على قرارات المستثمرين، يرى قومان أن الدولة لا يمكنها تشغيل مصنع أو توزيع سلع دون كهرباء مستقرة، وطرق ومرافئ فعّالة، وشبكات اتصالات وخدمات مالية فعّالة.
وعن تأثير حجم السوق المحلية والقدرة الشرائية للمواطنين على جدوى المشاريع الاستثمارية، يعتقد قومان أن السوق السورية صغيرة نسبيًا من حيث القوة الشرائية الحالية، بسبب تراجع دخل الفرد وارتفاع معدلات الفقر، كما أن الوجود السوري في الخارج يشكّل قوة شرائية إضافية عند تحفيز الاستثمار في قطاع التحويلات، والعقارات، والتعليم.
زيارة مستشار وزير الاتصالات عبدالله العلبي لمجمع مكست في تركيا – 13 من أيار 2025 (وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات السورية)
عوامل جذب ينتظرها المستثمرون
يمكن لبعض المغريات أن تجذب رأس المال إلى بيئة لا تزال غير مؤهلة تمامًا للاستثمار مثل الحالة السورية. تعاني الدول الخارجة من صراعات من انخفاض غير متناسب في مستويات الاستثمار الخاص في البنية التحتية والقطاعات الحيوية، إذ يتباطأ المستثمرون الكبار في الدخول، وعندما يفعلون، يركزون بشكل شبه حصري على القطاعات الفرعية الأكثر ربحية وسهولة في الحصول عليها، لذلك يعد جذب الاستثمارات المستدامة تحديًا كبيرًا يواجه صناع السياسات في الدول الخارجة من الصراعات.
بحسب ورقة بحثية جديدة حول “جذب وتحفيز الاستثمارات المباشرة في الدول الخارجة من النزاعات: دراسة تحليلية في الحالة السورية”، يتطلب جذب الاستثمار عدة قضايا قد تسهم الدولة في تأمينها، وبالتالي تبديد مخاوف المستثمرين تجاه البيئة غير المواتية بشكل كامل للاستثمار بعد.
وفق الورقة البحثية التي نوقشت في 21 من أيار الماضي، ضمن “مؤتمر الباب الدولي الثاني” في جامعة “حلب”، والتي اطلعت عنب بلدي على نسخة منها، يتطلب جذب الاستثمار وجود قوانين واضحة وشفافة تحمي حقوق المستثمرين، بالإضافة إلى قضاء مستقل ونظام قضائي عادل وموثوق.
المحاضر بكلية الاقتصاد في جامعة “غازي عينتاب”، صلاح الدين الجاسم، وهو أحد معدّي الورقة البحثية، قال لعنب بلدي، إن هناك عدة عوامل محفزة ينتظرها المستثمرون في هذا الإطار، وذلك بالاعتماد على الدراسة الميدانية التي اعتمدت عليها الورقة البحثية بناء على استطلاع رأي عدد من رجال الأعمال والخبراء والأكاديميين والمنظمات غير الحكومية الفاعلة في هذا السياق.
ومن العوامل المشجعة حوافز الاستثمار، مثل الإعفاءات الضريبية، وتسهيل إجراءات التراخيص، وتخصيص مناطق صناعية خاصة، وهي حوافز أثبتت فعاليتها كما في تجربة البوسنة بعد الحرب.
كما تلعب البنية التحتية دورًا مهًما في جذب الاستثمارات، حيث يسهم تأهيل شبكات الطرق والطاقة والاتصالات في تسهيل عمليات الإنتاج والتوزيع أمام المستثمرين.
كما أن وجود نظام مالي ومصرفي فعال وآمن يعزز من ثقة المستثمرين بالبيئة الاقتصادية ويسهل حركة رؤوس الأموال.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال دور المجتمع الدولي، إذ يمكن أن تسهم المساعدات الدولية والمنح المقدّمة من الدول المانحة والمؤسسات المالية العالمية في تحفيز الاستثمار، سواء عبر تمويل مشاريع البنية التحتية الكبرى أو تقديم الضمانات للمستثمرين، ما يعزز من جاذبية البيئة الاستثمارية في مرحلة ما بعد النزاع.
ما المدن الأكثر جذبًا للاستثمار في سوريا
بحسب الورقة البحثية التي نوقشت بجامعة “حلب” في أيار 2025، حول الاستثمار في سوريا، برزت مدينتا دمشق وريفها كأبرز المناطق الأكثر جذبًا للاستثمار، حيث تتمتع بكثافة سكانية عالية وبنية تحتية جيدة، ما يجعلها مكانًا مناسبًا للاستثمارات في القطاعات التجارية والخدمية والعقارية.
اللاذقية وطرطوس، بفضل موقعهما الساحلي الاستراتيجي، تقدمان فرصًا كبيرة في مجالات النقل والتجارة والسياحة. أما حلب، ورغم الدمار الذي تعرضت له، فهي ما زالت مركزًا صناعيًا مهًما في سوريا، وكانت تعد عاصمة صناعية في الماضي، وخاصة بمجالات النسيج والمواد الغذائية، ومع حاجة المنطقة لإعادة الإعمار، تفتح الفرص للاستثمار في هذه القطاعات.
المنطقة الشرقية، بما في ذلك دير الزور والحسكة، تملك موارد طبيعية غنية، خاصة في مجالي النفط والغاز، ما يجعلها واعدة للاستثمارات في قطاع الطاقة.
من جانب آخر، تتمتع مناطق مثل إدلب والشمال السوري بفرص استثمارية في القطاع الزراعي، نظرًا إلى وجود الأراضي الخصبة والقدرة على إنتاج محاصيل متنوعة. أما الجزيرة السورية فتعد من المناطق الزراعية المهمة بفضل توفر المياه والأراضي الخصبة، ما يزيد من جاذبيتها للاستثمار في هذا القطاع.
شاطئ أم السمرة في اللاذفية – 20 من نيسان 2025 (محافظة اللاذقية)
قانون مرتقب.. ما المتوقع فيه
تلعب القوانين الاستثمارية دورًا محوريًا في دعم الاقتصاد الوطني، حيث تساعد على خلق فرص عمل، ونقل التكنولوجيا، وتطوير البنية التحتية، وكلما كانت القوانين أكثر وضوحًا وشفافية، زادت فرص استقطاب المستثمرين من الخارج.
ويمثل قانون الاستثمار المرتقب صدوره الإطار التشريعي الذي يحدد آليات الاستثمار، والضمانات القانونية، والحوافز المقدّمة من الدولة، بالإضافة إلى الإجراءات المتعلقة بتأسيس المشاريع وتسجيل الشركات في سوريا، كما يعتبر وجود قانون استثمار واضح ومتطور من أبرز العوامل التي يبحث عنها أي مستثمر دولي.
الدكتور في كلية الاقتصاد بجامعة “حلب”، حسن حزوري، قال لعنب بلدي، إن قانون الاستثمار المتوقع صدوره في سوريا قريبًا سيحسن مناخ الاستثمار عبر توحيد المرجعيات والإجراءات من خلال إنشاء هيئة مركزية واحدة للاستثمار هي “الهيئة السورية للاستثمار” كجهة مركزية لتسهيل وتبسيط الإجراءات، إضافة إلى تقديم حوافز وضمانات تشمل إعفاءات ضريبية وجمركية وضمان عدم التأميم أو المصادرة إلا بحكم قضائي.
وأشار حزوري إلى أن المتوقع من القانون أيضًا تحسين البيئة القانونية عبر منح المستثمرين الأجانب حقوقًا متساوية مع حقوق المستثمرين المحليين وضمان حرية تحويل الأرباح ورأس المال.
وسيشجع القانون الاستثمار في قطاعات استراتيجية كالصناعة والطاقة وخاصة الطاقات المتجددة والزراعة والتكنولوجيا من خلال تخصيص مزايا إضافية للمشروعات في هذه المجالات.
بدوره، يوضح نائب عميد كلية الاقتصاد للشؤون الإدارية وشؤون الطلاب في جامعة “حماة”، الدكتور عبد الرحمن محمد، لعنب بلدي، أن المتوقع من قانون الاستثمار الجديد تبسيط الإجراءات من خلال رقمنة المعاملات وإنشاء منصة موحدة لتقديم الطلبات، ما يقلص الوقت والتكاليف.
وذكر أن على قانون الاستثمار تقديم حوافز ضريبية وجمركية من خلال إعفاءات للمشاريع في قطاعات الطاقة والسياحة والصناعة، وتحسين البيئة الاستثمارية عن طريق تشجيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص عبر نماذج مثل “البناء، التشغيل، نقل الملكية”، وتفعيل عقود الإدارة للمنشآت الحكومية المتعثرة.
سيناريوهات نجاح الاستثمار
عانى الاقتصاد السوري خلال السنوات الماضية خسائر في مختلف القطاعات، تمثلت في انعدام رؤية تنموية واضحة وتذبذب النموذج الاقتصادي، وشح الاستثمارات لا سيما بعد فرض العقوبات.
تغيّر المعطيات اليوم على مختلف النواحي يمكن أن ينعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد السوري في عدة جوانب، منها تحفيز النمو الاقتصادي العام من خلال جذب رؤوس أموال جديدة تسهم في رفع معدلات الإنتاج، وفق ما قاله الدكتور حسن حزوري.
وبيّن حزوري أن تحفيز النمو الاقتصادي سيخلق فرص عمل، إذ يؤدي تدفق الاستثمارات إلى إنشاء مشاريع جديدة وتوسعة القائم منها، ما سيؤدي إلى خلق المزيد من فرص العمل.
ونوه إلى فكرة زيادة الإيرادات العامة نتيجة وافر الإنتاج الذي سيؤدي إلى فائض في الوعاء الضريبي ما يعني مزيدًا من الإيرادات لمصلحة الخزينة العامة، ونقل التكنولوجيا والمعرفة، خاصة من خلال استثمارات أجنبية مباشرة، تساعد على رقمنة الاقتصاد والانتقال إلى حكومة إلكترونية، تقدم معظم خدماتها عبر التحول الرقمي، وتنشيط الصادرات من خلال إنشاء مشاريع صناعية وزراعية تستهدف الأسواق الخارجية.
وبالمقابل، يرى نائب عميد كلية الاقتصاد بجامعة “حماة”، الدكتور عبد الرحمن محمد، أن صدور قانون الاستثمار سينعكس إيجابًا على الاقتصاد السوري إثر الزيادة الإنتاجية في القطاعات الحيوية مثل الطاقة والصناعة، مع خفض معدلات البطالة عبر توفير فرص عمل مباشرة وغير مباشرة.
الأهم هو ضمان استقرار العملة نتيجة تدفق العملة الأجنبية والذي بدوره يدعم الليرة السورية ويقلل من التضخم، بحسب عبد الرحمن محمد.