الأربعاء, 28 مايو 2025 11:27 PM

سوريا على مفترق طرق إقليمية ودولية: تحولات القوى وتأثيرها على مستقبل البلاد

سوريا على مفترق طرق إقليمية ودولية: تحولات القوى وتأثيرها على مستقبل البلاد

يرى البعض في سقوط الأسد وهيمنة هيئة تحرير الشام في دمشق مجرد تجسيد لتجربة أحمد الشرع مع "القاعدة"، ليصبح الهدف الأوحد محاربة الإرهاب والتطرف والقيم السلفية. بينما يرى آخرون في ذلك تتويجًا لثورة الحرية والقضاء على حكم الأسد وإرثه الدموي، معتبرين الشرع محررًا ومخلصًا.

فريق ثالث ينظر إليه كباحث عن السلطة، ويرى في استئثاره بها مقدمة لدكتاتورية فردية جديدة. وهناك من يعتبر صعوده للسلطة أداة في صراع النفوذ بين تركيا وإيران والسعودية وإسرائيل، مستحضرًا الهوية الأموية في دمشق.

ويرى البعض الآخر في ذلك تأكيدًا لانتصار الأصولية الإسلامية على الأيديولوجيات العلمانية، وفرض القيم السلفية على مجتمع متنوع، مما يهدد وحدة المجتمع السوري وسلامته. ويرون أن السكوت عن السلطة الجديدة يعني خسارة معركة الحداثة والعلمانية والدولة الديمقراطية.

الحقيقة أن ما حدث يحمل في طياته كل هذه الجوانب، فهو واقع مركب يسمح بتأويلات متعددة. فسقوط الأسد أدى إلى تحول لصالح الأيديولوجيات الإسلاموية السلفية، وأنتج سلطة سياسية جديدة غيرت التوازنات الطائفية على الصعيدين الوطني والإقليمي، ونقلت سوريا من "محور المقاومة" إلى المحور العربي المحافظ، وفتح الباب أمام التفاهم مع الولايات المتحدة.

بينما تخوف البعض من نظام يهدد الطوائف والأقليات، راهن آخرون على عداء الغرب للسلطة الجديدة، معتقدين أنه لن يسمح بتسليم سوريا لسلطة سلفية.

انهيار الشرق الأوسط القديم هو ما سمح للشرع وهيئة تحرير الشام بإسقاط نظام الأسد، وليس العقيدة السلفية أو القوة العسكرية أو العصبية الطائفية، بل انهيار التوازنات الإقليمية التي جعلت سوريا منطقة عازلة بين إيران وإسرائيل.

فقد استمد نظام الأسد سبب وجوده وبقائه من هذا الصراع، حيث مثل وجوده مصلحة لإسرائيل التي ضمنت حياد سوريا، ومصلحة مماثلة لطهران التي جعلت من سوريا واسطة العقد في مشروع الهلال الشيعي.

كان منطلق هذا الانهيار خروج الصراع عن السيطرة مع انفجار "طوفان الأقصى"، الذي تحول إلى حرب إيرانية إسرائيلية بالوكالة، أدت إلى خسارة الطرفين الرهان على السيطرة على الشرق الأوسط.

وبينما فقدت إيران أذرعها المسلحة في لبنان وسوريا، انهارت عقيدة إسرائيل الاستراتيجية المبنية على أسطورة فائض القوة، وأفقدتها حربها الإبادية رصيدها الأخلاقي والمعنوي.

وبينما انكفأت طهران إلى حدودها، وغرقت تل أبيب في حربها، احتل الفراغ قوتان إقليميتان جديدتان: دول الخليج العربي الغنية وتركيا.

دفعت عدة عوامل إلى الجمع بين دول الخليج وتركيا، أبرزها تحالفهما المشترك مع الكتلة الأطلسية، ونجاحهما في بناء اقتصادات قوية وتجاوزهما منطق التبعية في العلاقات الدولية.

والواقع أن التقارب بين القوتين العربية والتركية لم ينشأ بعد "طوفان الأقصى"، وإنما مع بداية الثورة السورية عام 2011، واستمر التعاون بينهما في إدلب وشمالي سوريا.

أصبح خروج إيران من دائرة التنافس على قيادة الإقليم واضحًا اليوم، أما إسرائيل التي سقطت في وحل حرب خسرتها سياسيًا، فقد قضت على أي أمل لها بلعب دور إقليمي قيادي.

وقد أظهرت جولة الرئيس الأميركي في المنطقة أن التوجه العام إلى الحفاظ على المصالح وتعظيمها، لم يعد في المراهنة على استدامة حالة التوتر والحرب، وإنما على تطوير المصالح الاقتصادية المشتركة، والاعتماد على تركيا وبلدان الخليج.

وفي هذا السياق نفسه، تغيرت مكانة سوريا في الصراع الإقليمي ودورها، وبدلًا من أن تبقى منطقة عازلة، يراد لها أن تكون منطلق إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد، حلقة تواصل وجسرًا للسلام الإقليمي.

لقد أظهرت حرب غزة حدود الرهان على التفوق العسكري وحده في تحقيق الأهداف السياسية، وغيّرت التحولات الاقتصادية الكبيرة في السعودية ودول الخليج من مقاربة المؤسسة الأميركية في ما يتعلق بالحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.

لن يعني هذا أبدًا أن الغرب سوف يتخلى عن دعم إسرائيل، وإنما لن تكون مصالح إسرائيل وحدها التي تحدد الخيارات الاستراتيجية والسياسية للكتلة الغربية في المنطقة العربية.

شكّل هذا التحول انقلابًا حقيقيًا في العلاقات الدولية في المنطقة، وهذا ما يثير قلق إسرائيل، الذي تعبّر عنه بالاعتداء المتكرّر على سورية، وباحتلال مزيد من أراضيها، والدعوة السافرة إلى تقسيمها.

ستكون لهذا التحول إن ثبت انعكاسات في عموم أقطار المنطقة، وإذا وفّى الرئيس ترامب بوعده في الاعتراف بدولة فلسطينية، ربّما يصبح الطريق معبّداً لتحقيق المزيد من التقدّم في بسط السلام والأمن.

وربّما يفتح الطريق إلى إقامة منظّمة إقليمية للأمن والتعاون والتنمية على مستوى الشرق الأوسط، وهذا ما تحتاجه شعوبها لمواجهة آثار الدمار الذي ألحقه بها الصراع الطويل على السيطرة بين قوَّتَين سلبيَّتَين، إسرائيل وإيران.

أي مستقبل للديمقراطية في هذا المسار الإقليمي الجديد، يحاول أن يتموضع نظام أحمد الشرع الوليد، إن لم تكن ولادته جزءاً من هذا المسار.

وإدراك هذا التحوّل والجرأة على الانخراط فيه هو الذي أوصله إلى دمشق، وضمن له الانتصار العسكري اللافت، كما ضمن لنظامه سرعة الاحتضان من الدول المعنية بهذا التغيير الاستراتيجي الكبير.

لقد كان الصراع على سورية، التي تمثّل قلب الشرق الأوسط الحي وملتقى توازناته محور صراع أكبر على السيطرة الإقليمية، أشدّ أثراً في تقرير مصير بلدانها من أثر الصراعات والحسابات الداخلية، وسوف يبقى على الأغلب زمناً طويلاً.

إنه يندرج في صراع جيواستراتيجي أشمل، لا يكاد يبدأ، يغذّيه صعود الصين اللافت، وبروزها ندّاً منافساً الولايات المتحدة.

ومنذ الآن، يبدو أن الشرق الأوسط أصبح أكثر أهميةً للولايات المتحدة من الناحية الاستراتيجية من أوروبا في هذا التنافس العالمي الجديد.

من هنا، يمكن أن نفهم النجاح السريع الذي حقّقه “انقلاب” الشرع، والترحيب الكبير الذي لقيه في العالم العربي خاصّة، وفي أوروبا وأميركا والعالم.

والواقع ان أوروبا تدفع ثمن خطئها الكبير في العقود الماضية، عندما لم تشأ أن ترى في المشرق والعالم العربي سوى آبار نفط، وقوافل جمال مفيدة للصور السياحية، وخامات رخيصة، ومهاجرين بأجور زهيدة، وفشلت في أن تعيد النظر في تعاملها مع هذه المنطقة شعوباً طامحةً في التقدّم والبناء والاندماج في مسار المدنية الحديثة.

على أوروبا اليوم أن تركض بسرعة حتى تستدرك بعض تخلّفها عن ركب التحوّلات الإقليمية والعالمية، ولكيلا تترك الولايات المتحدة تقطع الطريق عليها.

في النتيجة، أي أثر لهذه التحوّلات الإقليمية والدولية في تطوّر الوضع السوري الداخلي، الذي هو اليوم أكثر ما يشغل الرأي العام السوري؟…

دخلت سورية في معادلة إقليمية ودولية تتجاوز رهاناتها مسألة توزيع السلطة السورية، والمشاركة فيها، وتخضع في حساباتها وأشكال تطوّرها والتعبير عنها بدرجة أكبر لعوامل تتعدّى إرادة السوريين أنفسهم، نظاماً وجماعات معاً.

وبمقدار ما سيُعاد دمج الأقطار التي تخلّفت عن هذا الركب (منها سورية ولبنان بشكل خاص بسبب تغوّل المشروعَين الإيراني والإسرائيلي عليها) في الاقتصاد الإقليمي القائم الذي يقوده الخليج العربي الغني بالموارد النفطية، منذ عقود، سوف تسيطر على توجّهاتها الخيارات النيوليبرالية والاقتصادية السائدة فيه، أي تقدّم مجتمع المال والأعمال والتجارة والاستهلاك على جميعَ القيم الأخرى.

لكن، من يدري، ربّما هذا ما تحلم به النُّخبة السورية الصاعدة في دمشق وأخواتها في بيروت وعمّان وبغداد وبقية مدن المشرق، كما حلمت به نُخب الخليج من قبل.

وعلى الصعيد السياسي، غيّر هذا التوجّه (أكّده رفع العقوبات) حسابات الأطراف المتنازعة، وغيّر المزاج العام.

أمّا في ما يتعلّق بحلم الديمقراطية القديم والدائم، فأنا أرى أنه لا توجد سلطة، حتى تلك المنبثقة من انتخابات شرعية، تلتزم بمبادئ الديمقراطية، إن لم تجد في مواجهتها قوىً اجتماعيةً منظّمةً وأفراداً أحراراً يدافعون عنها ويضحّون من أجلها.

ليس هذا ما كان يتمناه جيلنا الذي قادته قيم الحرية والعدالة والمساواة والسيادة والازدهار والإبداع الفكري والسمو الروحي والمعنوي. لكن هذا ما قضت به الأحداث، وحمل به التاريخ.

برهان غليون – العربي الجديد

مشاركة المقال: