الأحد, 1 يونيو 2025 02:17 AM

سوريا: نحو دولة مدنية لا مركزية تفصل الدين عن السياسة

د. سلمان ريا: ليس الفصل بين الدين والسياسة وليدَ سياقٍ حداثي مستورد، ولا هو اختراع علماني كما يُروَّج في خطاباتٍ تعاني من ضيق أفق القراءة وسوء الفهم؛ بل هو جوهرٌ أصيل في صلب البنية الفكرية التي شادها علماء الإسلام في عصور ازدهار العقل والاجتهاد. لقد ميّز أولئك الفقهاء – وفي طليعتهم الإمام القرافي – بين الفتوى التي تخاطب الوجدان والضمير الفردي، والقضاء الذي ينظّم شؤون الجماعة ويؤسس لعدالة عمرانية تليق بمقاصد الدين.

فالفتوى رأيٌ يتنزل على النصوص بنَفَس تعبّدي، مرنٌ بتعدد الاجتهادات، متسامحٌ مع اختلاف الأفهام. أما القضاء، فهو حكمٌ يصدر عن سلطة راشدة، تتكئ على العقل الجمعي، وتبتُّ في المعاملات والمنازعات باسم المجتمع لا باسم النص المجرد. الفتوى تتنفس في فضاء الحريّة الفردية، أما القضاء فينتمي إلى عالم السلطة التشريعية والتنفيذية، حيث القرار يُلزم، والاختلاف يُحسم.

وقد عبّر القرافي في كتابه “الإحكام” عن هذا الفصل بكلمات دقيقة، حين أكّد أن ما يجوز الإفتاء به قد لا يجوز به القضاء، وأن الفقيه يُرشد، بينما القاضي يُلزِم، وكلٌّ منهما يستند إلى ميزان مختلف في المصلحة والمآل.

ولئن كانت هذه الثنائية – بين العبادة والمعاملة، بين الفقيه والقاضي – قد بُنيت على أساسات راسخة في التراث الإسلامي، فإن الحاجة اليوم، في سوريا التي أنهكتها الصراعات وشوّهت هويتها المركزية، أن تستعيد هذا التوازن بتحديثٍ عميق يتسق مع متطلبات الدولة الحديثة: دولة اللامركزية الرشيدة، حيث لا تحتكر العاصمة وحدها القرار، بل تنبع السياسات من واقع المحافظات، من نبض الناس، من حاجات الاقتصاد المحلي في دير الزور كما في طرطوس، وفي حلب كما في السويداء.

لقد كانت السياسة – بما هي فنّ الممكن وتحوّلات المصالح – ميداناً متقلباً، تتغيّر فيه الوجوه والشعارات، وتُبرَم فيه التحالفات على أسس ظرفية لا ثابت فيها إلا تقاطع القوى. ولئن كان من الطبيعي أن تخطئ السياسة، وأن تُجرّب وتُراوغ، فإن الخطر كل الخطر حين تُستعير من الدين عباءته لتُغطّي هشاشتها أو تُجمّل نزواتها. ذلك أن الدين، حين يُستدعى من عليائه إلى دهاليز السلطة، يفقد قدسيته وشفافيته، ويتحوّل من نبعٍ للهداية إلى مطيّةٍ للهيمنة، ومن رسالةٍ أخلاقية إلى خطاب تبريري يُبرّر الظلم باسم الطاعة، والفساد باسم القضاء والقدر.

وهنا تبرز نبوءة ابن خلدون التي سبق بها الأزمنة، حين رأى أن الدين إذا ما التحم بالملك التحاماً مصلحيًا، تحوّل من دعوةٍ للإصلاح إلى آلة تسويغٍ للسلطة، وانكفأ عن مهمته الأصلية في تهذيب العمران وبناء الإنسان.

جميلُ الدين لا يُقاس بمقدار ما يُوظَّف في خطابات السياسيين، بل بمقدار ما يبقى بمنأى عن ابتزازهم. فالدين، في جوهره، دعوة للعدل والتكافل، لا أداة لشرعنة احتكار الثروات، ولا منصة لفرض الإقصاء. هو ميثاق ضمير، لا بيانُ حكومة. ولعلّ أحد أعظم إنجازات الفقهاء العقلانيين في تراثنا، أنهم صانوا الدين من تقلب السياسة، وفصلوا الفتوى – بوصفها اجتهاداً روحياً – عن القضاء بوصفه قراراً مدنياً سيادياً.

السياسة، مهما تشدّقت بالمبادئ، تظل محكومة بتوازن القوى، ومشروطة بمصالح المتنفذين. أما الدين الحق، فهو ما يسمو عن الزمان والمكان، ويتجلى في ضمير الإنسان، وفي كرامته حين يختار، لا حين يُؤمَر. من هنا، فإن أخطاء السياسة، مهما عظُمت، تُغتَفر حين تكون نتاج اجتهاد بشري، لكنّها تصبح جرائم مضمرة حين تُقدَّم على أنها إرادة إلهية. فليحذر الساسة من تلويث النصوص بأيديهم، وليَكفّ الدعاة عن لعب أدوار الوزراء.

إن البناء الوطني في سوريا لا يمكن أن يقوم على مركزية فكرية أو بيروقراطية متخشبة؛ بل على اعترافٍ بالواقع المتنوع، الاجتماعي والمناطقي والطائفي، وعلى تطويرٍ لتشريعات مرنة تتكئ على الشورى والعقل والخبرة، لا على سلطان النصوص المعزولة. فالسياسات الاقتصادية والبلدية والاجتماعية ينبغي أن تُدار بأيدي من يعيشون نتائجها، لا من يقرأون عنها في أبراج العاصمة. والعدالة لن تتحقق إلا بقضاء ينشأ في ضوء معاناة الناس، لا تحت عباءة سلطة دينية تحتكر الحق والخلاص.

في هذا الإطار، يصبح الفصل بين الفتوى والقضاء، بين الدين والسياسة، ليس نكوصاً عن الهوية بل ارتقاءً بها، لا تفكيكاً للتماسك الاجتماعي بل تأسيساً لوحدة جديدة، أكثر صلابة وعدلاً. حين نحرر الدين من عبء السياسة، ونحرر السياسة من سطوة الفتوى، نكون قد خطونا خطوة باتجاه دولة لا مركزية، راشدة، تتسع للناس… وتليق بالمتقين. (موقع اخبار سوريا الوطن-1)

مشاركة المقال: