يتحدث أحمد عسيلي عن تجربته كطبيب، خاصة في مجال الإسعاف والإسعاف النفسي، حيث يرى الإنسان في لحظات ضعفه الشديد. في هذه الأوقات، قد يلجأ الفرد إلى تصرفات غير معهودة، ليست هدفًا في حد ذاتها، بل هي بمثابة نداء استغاثة ورسالة مشفرة تعبر عن الخطر والحاجة إلى المساعدة، أو تعكس واقعًا يفوق قدرة الإنسان على التحمل.
في غرف الطوارئ، تتكرر هذه المشاهد: مريض يهدد بالانتحار، شخص يصرخ في مكان عام، أو آخر يدمر ما حوله. هذه الأفعال، على الرغم من عنفها الظاهر، غالبًا ما تكون طلبًا للمساعدة أكثر من كونها رغبة في التدمير. هنا يظهر دور الطبيب النفسي في التمييز بين الميول الانتحارية الحقيقية الناتجة عن حالة مرضية، وبين نداء الاستغاثة لجذب الانتباه وتغيير الوضع.
الخبرة الإكلينيكية تكشف أن الإنسان في لحظة الشدة يختلف عن نفسه في أوقات الراحة. قد يرى الطبيب مريضًا مضطربًا في الطوارئ، ثم يجده أكثر هدوءًا وعقلانية بعد يومين. أحيانًا، تظهر المتابعة الطويلة الأمد في العيادة اختلافًا كبيرًا بين صورة المريض في الأزمة وصورته في الاستقرار.
في الثقافة السائدة، يُقال إن "حقيقة الإنسان تُعرف وقت الشدة"، لكن التجربة اليومية تظهر أن هذا صحيح في حالات قليلة فقط. غالبًا ما تُظهر الشدة نسخة مؤقتة ومشوشة من الشخص، وليست جوهره الحقيقي. لذلك، يجب تذكير المريض بأن ما بدر منه في الأزمة لا يختصر هويته، ويجب فهمه في سياق الحالة الطارئة.
هذا الدرس الطبي ينطبق أيضًا على المجتمعات. في الأزمات الوجودية، قد تطلق المجتمعات نداءات استغاثة جماعية: شعارات قصوى، رموز صادمة، أو تحالفات مفاجئة. هذه الأفعال قد تبدو قناعات راسخة، لكنها نفسيًا تشبه محاولة المريض للفت الأنظار في الطوارئ. مثال ذلك ما حدث في السويداء، حين رُفع العلم الإسرائيلي في بعض المظاهرات، وهو مشهد صادم، لكنه قد يُقرأ كصرخة نجدة أكثر منه تحالفًا دائمًا، خاصة في سياق الانسداد السياسي وفقدان الثقة بالخيارات التقليدية.
التطرف في المواقف، كما تؤكد دراسات علم النفس الاجتماعي، سلوك متكرر في ظروف الشدة. تحت الضغط، تميل الجماعات إلى الآراء الحادة، ليس دائمًا بدافع قناعة مستقرة، بل كرد فعل دفاعي يمنح شعورًا بالقوة أو الحسم.
في الأزمات، تظهر أفعال لم تكن ممكنة في الأوقات العادية، مثل العقاب الجماعي القاسي لمغنٍّ في إدلب بسبب موقف سياسي سابق، أو الاغتصابات الجماعية في ميدان التحرير بمصر بعد سقوط نظام الإخوان، وحتى النداءات الشوفينية من أطراف متقابلة في الحالة السورية، سواء من بعض أهالي السويداء أو من مجموعات بدوية وامتداداتها في أوروبا.
الأخطر هو تحول لحظة الشدة إلى أزمة ثانية، حين يستعيد الفرد أو المجتمع صورته عن نفسه في تلك المرحلة. بعض المرضى يدخلون في اكتئاب عميق بعد تذكر تصرفاتهم في الإسعاف، ويظنون أن تلك اللحظة هي حقيقتهم الكاملة. هنا يأتي دور المختصين في إعادة وضع الأمور في سياقها: ما جرى كان ظرفًا استثنائيًا، لا هوية دائمة. وإذا لم يحدث هذا الفصل، تتحول الأزمة الطارئة إلى وصمة طويلة المدى.
المجتمعات تحتاج إلى المعالجة نفسها. إذا ثبّتت صورة ذاتها استنادًا إلى مرحلة إسعافية عابرة، ستختزل هويتها في أسوأ حالاتها وأكثرها تشوشًا. السوريون يعرفون هذا من تجربتهم القريبة. في 2013، بعد موجات اللجوء الكبرى، أصبحت صورة "اللاجئ" هي الصورة العالمية للسوري، واختزلت الروايات والأفلام الأجنبية الهوية السورية في خيمة ومعبر وحدود. لم يُنظر إلى هذه الصورة كنتيجة لظرف طارئ، بل كهوية دائمة، مما أثر على كيفية رؤية السوري لنفسه وكيف يراه الآخرون، لدرجة أن بعض السوريين تنصلوا من هويتهم نتيجة لحملها الثقيل.
الخلاصة أن صورة الإنسان، فردًا كان أو جماعة، لا يجب أن تُبنى في مرحلة عدم الاستقرار القصوى. هذه لحظة طارئة، مليئة بالانفعال والتطرف، وليست وقتًا لرسم ملامح الهوية النهائية. السيطرة على النفس، وتأجيل الحكم على الذات أو الجماعة، هو شكل من أشكال النضج والوقاية، فالصور التي تُرسم في العاصفة قد تلتصق طويلًا، حتى بعد أن تهدأ الرياح.