الحرية ابنة النور، والحبس ابن الظلام، وما بين النور والظلام، حكايات تروى بلا نهاية. رواية (حكمة البوم، والببغاء كاسكو) للكاتب والإعلامي عماد ندّاف ليست كأي رواية، بل هي عدة روايات متنوعة جمعها في رواية واحدة تحت مظلّة الحكمة والقوة إضافة إلى القهر والمعاناة.
الكاتب يستلهم حكاياته من الواقع أو من تجربته الخاصة عندما اعتُقل منذ سنوات طويلة ودخل السجن، وهذا يمتلك جرأة ومعاناة كبيرين. طائر البوم يشتهر بأنه نذير شؤم، وطائر الببغاء بالتقليد الأعمى، إلا أنه يوردهما في الرواية بشكل مختلف، ليجعل الحكمة والقوة تتناوبان عند الأحداث المرتبطة بوجودهما، ويمسك بنا جيّداً ليثير فينا فضول معرفة القادم من الأحداث المتوقعة وغير المتوقعة. يتابع الكاتب البحث في زاوية جديدة من مرحلة سياسية معينة “الوحدة السورية المصرية”، التي سبق وتناولها من خلال عملين سابقين له هما (حكايات حارة المؤيد_ الجن والعاشقات).
في الرواية نرى الشيخ نواف، الأب البدوي الحكيم الذي أراد أن ينقل لابنه الحكمة بطريقته الخاصة، بينما يمارس قسوته مع المساجين وحكمته أيضاً. المساجين الخمسة يمثّلون عدّة قوى وأحزاب تختلف في اتجاهاتها ويجمعهم السجن، فيُغرقنا الكاتب بمماحكات سياسية كبيرة وخطيرة، وأحداث زمانية ومكانية غير مباشرة إلا أنها حقيقية. الحوارات كثيرة في هذه الرواية والمشهدية عالية المستوى ينقل لنا عبرها آلام الجوع والقهر والذل داخل جدران السجون، إضافة إلى التركيز على الأساليب المخفيّة والممارسات المخيفة التي يشهدها عالم السجون.
لم يخلُ كل هذا الألم الذي يسلّط الكاتب عليه الضوء من الحياة والحلم والحب والموسيقا، ولم يتوانَ عن التقاط الجمال من رحم الوجع إذ يكرر الكثير من أسماء الزهور والنباتات لخلق راحة نفسية معينة عند القارىء مثل ( الياسمين، شتول الحبق، البرتقال اليافاوي، أزهار الهرجاية، الشب الظريف، الأقحوان، الدفلى…الخ)، كما أنه يضيف مشاهد متكررة من تساقط المطر عدة مرات لتخفيف وطأة الألم والسطوة الكبيرين، حتى أن الأماكن والمواقع ظهرت في جزء من الرواية بوضوح مثل (سوق الحميدية، شارع النصر، سوق الهال…) وفي جزء آخر بإيحاء وترميز (القاووش الذهبي، فرع الحديقة، الإقليم الجنوبي…).
لا نستطيع أن نستهين أبداً بحكمة البوم التي أصبحت أكثر وضوحاً في منتصف الرواية تقريباً، والتي من أبرزها أننا قد نشعر أن القوة في الحكمة، وعندما نراها من زاوية أخرى نشعر أن الحكمة في القوة. ولا نستطيع أن نستهين بحكمة الببغاء كاسكو أيضاَ، إذ إن الرائد يروّض مساجينه ويجعلهم يقولون ما يريد بتقليد أعمى، مثلما يقول له الببغاء كاسكو كل صباح: “صباح الخير سيدي”.
التّحزّبات، الانقلابات، تصارع القوى واختلاف موازينها عبر التاريخ، وقضية فلسطين، كلّها قضايا تؤثّر على الوطن وتجعله يصرخ من عدم الاستقرار، تحدّث عنها الراوي جميعها بطريقته لتصب في نهاية محيّرة ونصف منصفة، سعيدة وحزينة، أي تحمل تضادات. ربما من الحكمة أن لا عدالة مطلقة شهدها أو من الممكن أن يشهدها التاريخ، والقوة الأكبر تكمن في داخلنا وما نؤمن به.