الأربعاء, 27 أغسطس 2025 05:55 AM

صنع الله إبراهيم: صوت الأدب الصادق في وجه نفاق الثقافة

صنع الله إبراهيم: صوت الأدب الصادق في وجه نفاق الثقافة

في زمن يشهد خيانة إبداعية وانحرافًا في القيم، يبرز اسم صنع الله إبراهيم كقامة أدبية شامخة، حيث تبقى الكلمة الصادقة هي الأعلى صوتًا في مواجهة أي نزق ثقافي أو مجاملة اجتماعية.

قراءة أعمال صنع الله إبراهيم تعني الغوص في أعماق الأدب النقي، الذي لم تستطع المغريات أن تنال من صلابة مواقفه. إنه الروائي المبدع والمثقف الملتزم الذي انحاز إلى عدالة القضية الفلسطينية ودافع عن حقوق شعبها.

لقد رسخ صنع الله إبراهيم حضوره في الذاكرة الثقافية العربية، بموقفه الشهير على مسرح ملتقى القاهرة للإبداع الروائي في 22/10/2003، حين أعلن رفضه للجائزة الممنوحة من المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وهو موقف أربك الحضور، لكنه لم يكن مفاجئًا لمن يعرفه.

حياة صنع الله إبراهيم (١٩٣٧- ٢٠٢٥) لم تكن كحياة غيره من الروائيين اللاهثين وراء المجد الزائف والأدب الرخيص، فهو المتمرد بفكره وأدبه، والمتماهي مع أوجاع الإنسان، والرافض للمهادنة على القضايا المبدئية والمصيرية. تلك المواقف كانت انعكاسًا لمبدئيته، فهو الأبعد عن الجوائز التي تمنح لتلميع الوجوه، والأكثر إيمانًا بأن الانحياز لخلود الكلمة الصادقة أسمى من أي تكريم.

لقد أتقن صنع الله إبراهيم أدبه، واختار الصدق حبرًا لكتاباته، فأصبحت رواياته معلمًا من معالم طريق الالتزام والمسؤولية الأخلاقية والأدبية. وظل حتى اللحظة الأخيرة رافضًا العيش في بحبوحة الحياة، قابضًا على جمر الإبداع الملتزم، لتكون حياته ثمنًا باهظًا لمواقفه التي دفعها سجنًا وعذابًا ومعاناة يجدها القارئ بين حروف كتاباته وفي صفحات رواياته الواقعية، والتي قدمها إلى جمهوره بعيدًا عن تعقيدات اللغة وفذلكات الروائيين الانتهازيين. ولهذا أتت رواياته معرية للطبقية والإرهاب، كاشفة لزيف الحكام وفاضحة لاستبداد السلطات القمعية التي اختارت التمكين على رؤوس المساكين والمهمشين.

كان ثابتًا كالجبال الراسخة، لكنه مر في حياتنا سريعًا كالسحاب، تاركًا وراءه مطر الخير وأثر العطاء حيثما حل. وكان من القلة النادرة من المثقفين اليساريين الذين لم تدفعهم التحولات السياسية والاجتماعية للتخلي عن مبادئهم، فبقي النموذج الأبهى للروائي الملتزم، والمبدع النزيه البعيد عن عوالم النخاسة الأدبية، والثابت في موقعه كمثقف نقدي لا يركن للسائد ولا يجامل القبح في الحياة.

حققت رواياته حضورًا لافتًا في الوطن العربي والعالم، واحتلت موقعًا مميزًا بين الأعمال الروائية التي شكلت وعي أجيال من القراء، وأثبتت أن الأدب الحقيقي لا يعيش إلا بالصدق. وإذا كان أمله قد خاب من مأساوية أوضاعنا وضياع أحلامنا وتلاشي أفكارنا، بعد أن وصلنا إلى مرحلة القتل على الهوية، فإن الأمل ما زال حاضرًا في أن يبقى أدب صنع الله إبراهيم نبراسًا لمن يبحثون عن الإبداع الحقيقي والكلمة الصادقة.

لك الخلود يا شيخ الرواية وملهمها، وأنت الذي علمتنا أن العدل مجرد كلمة تتلون وفق مزاج الحارس، وأن الحرية قد تأتي في صورة فتحة تهوية صغيرة تمرر قليلًا من الضوء وكثيرًا من الغبار داخل الجدران. لك المجد في علياء أدبك وأنت الذي أحسنت تصوير التفاف السياسة والاقتصاد معًا حول رقبة المواطن، كما يلتف حبل غسيل مهترئ حول عنق الطابق الأخير.

إنه "شرف" الرواية وصدق المبدع في زمن الخيانة الإبداعية والتحلل من الثوابت والقيم، وهو زمن غدا بأمس الحاجة إلى "اللجنة" لتفضح نفاق المثقفين وانتهازيتهم كما فضحت المستبدين وأساليبهم.

(أخبار سوريا الوطن1-بوابة الشرق الأوسط الجديدة)

مشاركة المقال: