الخميس, 5 يونيو 2025 02:52 PM

في شمال سوريا: البحث عن الرزق وسط الأنقاض.. مهنة محفوفة بالمخاطر

في شمال سوريا: البحث عن الرزق وسط الأنقاض.. مهنة محفوفة بالمخاطر

تحولت مهنة سحب الحديد من أنقاض المباني المدمرة في شمال غرب سوريا إلى خيار شعبي للبقاء، ووجه من وجوه التعامل مع الخراب، فهي ليست فقط قصة حديد يُستخرج من تحت الركام، بل حكاية مجتمع يحاول إعادة بناء نفسه بيديه العاريتين وبأنقاض مدنه المدمرة.

الدمار حكاية بقاء

يعمل نور رعد الفارس، ضمن ورشة صغيرة قوامها أربعة عمال، على استخراج الحديد من البيوت المدمرة بناء على طلب أصحابها، الذين يدفعون لهم أتعابهم مقابل هذه المهمة، التي يتفاوت حجم التعب والمخاطرة فيها من بناء إلى آخر، وفقاً له. كثيراً ما يجد الفارس والعاملون معه أنفسهم “على حافة الخطر”، نتيجة “انهيار جزء من السقف من دون إنذار”، ويصطدمون ببعض التحديات الأخرى كأن “يستحيل سحب الحديد من بعض الأسقف بالمعدات اليدوية” فيضطرون إلى تركها، أو أن يخلّ صاحب العقار بالاتفاق معهم ولا يعطيهم حقهم، وفقاً له.

يرفض الفارس أن يطلق على عمله “مهنة”، لأنها “لا حلوة، ولا سهلة، ولا آمنة”، لذا “عملنا سبيل للعيش لا يوجد غيره”. بعد انتهاء الفارس من العمل، يُسلّم الحديد لصاحب العقار، الذي يبيعه لورشات التجليس، أو “الجلاسات” كما يطلق عليها محلياً، وفي هذه الورشات يُستصلح الحديد ويُقطّع، ومن ثم يعاد بيعه كمادة مستعملة تستخدم في صب الأدراج أو بعض الأعمدة الثانوية، ويتراوح سعر طن الحديد المستعمل بين 200 و300 دولار بحسب جودته، بينما يصل سعر طن الحديد الجديد إلى 710 دولارات، كما أوضح الفارس. الفارق السعري بين النوعين يسهم في رواج الحديد المستخرج، رغم الجدل حول صلاحيته الفنية ومدى تحمّله، بحسب الفارس الذي يعرف العديد من الأشخاص، بما فيهم جيرانه، استخدموا الحديد المستعمل في ترميم بيوتهم “لأن الجديد غالي”، وفقاً له.

ورغم خطورة هذا العمل وانتشاره في المناطق المدمرة، لا يوجد تنظيم لهذا القطاع، وكثير من العمال يعملون من دون موافقات أمنية من الجهات المختصة، وهذا يعرضهم أحياناً لـ”الغش والنصب”، علاوة عن المجازفة بسلامتهم، بحسب الفارس. لكن من أجل معايير الأمن والسلامة، يجب أن تمر عملية “رفع كل حجر من مكانه، وانتشال كل قضيب حديد عبر منظومة دقيقة من التنسيق والتفتيش” وهذا ما تفعله فرق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) في عمليات إزالة الأنقاض، كما أوضح المهندس علي محمد لـ”سوريا على طول” أثناء إشرافه على إزالة أنقاض مبنى في مدينة حلب.

الترميم يبدأ من الأنقاض

في بلد تعاني من إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، حيث يحتاج أكثر من ثلاثة أرباع سكان سوريا إلى مساعدات إنسانية، بعد أن دمّرت الحرب حياة الناس واقتصاد بلادهم والبنية التحتية، “لا تعني كلمة إعمار مجرد رفع جدران جديدة، وإنما تبدأ بصوت المهدّات لهدم ما تبقى من أنقاض واستخراج قضبان الحديد منها”، كما قال طه محمد الشاهين، صاحب ورشة لتجليس حديد البناء في بلدة كفرزيتا.

تُنقل قضبان الحديد التي يستخرجها العمال من المباني المدمرة إلى “الجلاسات”، وتبدأ هناك “عملية الفرز لاختيار القضبان غير المتآكلة من الصدأ، ومن ثم يتم تجليسها بمطرقة صغيرة يدوياً حتى تستقيم بنسبة 90 بالمئة، ومن ثم تفرز القضبان حسب سماكتها، 10 مليمترات و12 مليمترات، وهي العيارات المستخدمة في البناء”، بحسب الشاهين. ورداً على سؤال “سوريا على طول” عن آلية تقييم الحديد الصالح لإعادة الاستخدام في البناء، قال الشاهين: “يتم تقييم الحديد بالنظر إليه بالعين المجردة فقط”، أي من دون إجراء الاختبارات اللازمة.

تعليقاً على ذلك، حذرت المهندسة المدنية صفاء كاشور من استخدام الحديد المعاد تدويره في البناء، قائلة لـ”سوريا على طول”: “تحت الأنقاض توجد كميات كبيرة من الحديد، قد يكون بعضها صالح جزئياً وبعضها الآخر قد لا يكون صالح نهائياً”، مشيرة إلى أن “بعض القضبان قد تبدو سليمة إلى حد ما، لكنها تعرضت لتشوهات حرارية وهيكيلية بسبب الانفجارات أو الحرائق، وبالتالي لم تعد لديها المواصفات القياسية لمقاومة الحديد على شد”.

بين الفوضى والتنظيم

كشف إبراهيم الإسماعيل، المكلف بتسيير وحدة إدارة المشاريع في محافظة إدلب، عن جانب مختلف من ظاهرة استخراج حديد أنقاض المباني، حيث تسود لغة التنظيم أو في أسوأ الأحوال محاولات تنظيمها، على عكس ما يحصل في الورش العشوائية. تعتمد وحدة المشاريع في ضبط العملية على عناصر “ضابطة البناء”، الذين يتحققون من ملكية العقار قبل السماح بأي عملية هدم أو استخراج.

البناء بعد الحرب

في حي شعبي بمدينة إدلب، يعمل عبد المنعم، المعروف بين الناس بلقب “أبو مروان”، في تجميع الخردة وبيع المواد الأولية المعاد تدويرها من الأنقاض. بعد سقوط نظام الأسد، تراجع سوق الحديد المستعمل، بحسب أبو مروان الذي اشتكى من “ركود السوق”، وعزا ذلك إلى أن “الدولة بدأت تمنع استخدام هذا الحديد في البناء حرصاً على سلامة الأبنية”، وبالتالي صار يُباع من أجل الصهر وليس من أجل الاستخدام في الإنشاءات.

في دارة عزة بريف حلب، يهتم التاجر أحمد السيد بجودة الحديد ونوعه وسعره، مشيراً إلى أنه لا يتعامل إلا بالحديد الجديد والمستورد من تركيا أو إيران، ويتعامل حصراً مع أسماء شركات معروفة في سوق البناء، على حد قوله. وختمت المهندسة كاشور: “ما يؤلمني أن هناك أشخاص يخاطرون بحياتهم وسط الأبنية المهدمة من أجل تأمين دخل لا يتجاوز بضعة دولارات في اليوم”، ناهيك عن أن الحديد المستخرج، الذي “يُستخدم في البناء الشعبي دون فحصه مخبرياً قد يؤدي إلى كوارث مستقبلية”.

مشاركة المقال: