على وقع أعمال عنف دامية شهدتها مناطق مختلفة من الساحل السوري مطلع مارس/آذار الماضي، لجأ آلاف من العلويين من مناطق سكناهم هناك، إلى قاعدة حميميم الجوية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة اللاذقية، والتي تديرها روسيا، حيث يعيشون حياة قاسية.
وبعد أسابيع من لجوء هؤلاء الأشخاص إلى القاعدة، التي أُنشِئِت عام 2015 وتنتشر فيها قوات روسية منذ توقيع اتفاق خلال العام نفسه بين موسكو وحكومة الرئيس السوري السابق بشار الأسد، بات بعضهم يقولون إنهم يتعرضون حالياً، داخلها لتضييق بصور مختلفة.
من بين هؤلاء، رجل اختار أن يسمي نفسه “أحمد”، قال لبي بي سي إن هذا “التضييق” بدأ منذ أسابيع قليلة، مشيراً إلى أن القوات الروسية في القاعدة، بدأت بإخراج السوريين المحتمين بها من أبنيتها، ليقيموا في مجموعة من الخيام، مع تحديد مواعيد لهم للاستيقاظ عند الساعة السابعة صباحاً، وتكليفهم عند الاستيقاظ، بتنظيف خيامهم وجمع القمامة منها. ولا يراعي ذلك، بحسب “أحمد”، ما إذا كان المرء صغيراً أو كبيراً، أو طبيعة حالته الصحية.
ويضيف أنه تم تحديد موعد النوم عند العاشرة مساءً بشكل إجباري، دون مراعاة “ما إذا كنت مريضاً بالربو (مثلاً)، وتحتاج إلى الخروج من الخيمة، لاستنشاق بعض الهواء”، مع العلم أن الخيام تفتقر إلى الكهرباء، بحسب قوله.
وشدد “أحمد” في الوقت نفسه، على أن المحتمين في حميميم، “لن يخرجوا منها مهما حصل”، قائلاً إنهم لن يكونوا في مواجهة ما وصفه بـ “الإرهاب الموجود على الباب الخارجي للقاعدة، رغم التضييق الذي يحصل عليهم”.
ووثّق حقوقيون، مقتل أكثر من 1400 مدني، معظمهم من العلويين، في اللاذقية ومحافظات طرطوس وحماة وحمص المجاورة، في أعمال عنف شهدها مارس/آذار الماضي، واستمرت عدة أيام. واندلعت شرارة هذه الأحداث، بعد كمين نصبه مسلحون لدورية تابعة لإدارة الأمن العام السوري، قرب قرية قريبة من مدينة جبلة الساحلية في السادس من الشهر الماضي.
وتطورت الأحداث، خلال الأيام التالية لتتحول إلى هجمات واشتباكات بين قوات الأمن السورية ومسلحين مناوئين لها، وهو ما تخلله تظاهرات لأنصار كلا الجانبين، في مدن مختلفة من البلاد. وفي ذلك الوقت، تحدث المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يتخذ من بريطانيا مقراً له، عما وصفه بـ “مجازر”، تُرتكب بحق العلويين في منطقة الساحل، التي يتركز فيها علويّو سوريا، الذين ينتمون لطائفة تتبعها أيضاً عائلة الأسد، التي حكمت هذا البلد على مدار خمسة عقود.
وفي أعقاب ذلك، أصدر رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، قراراً بتشكيل “لجنة وطنية مستقلة” للتحقيق في هذه الأحداث الدامية، وتحديد المسؤولين عنها، ورفع تقرير في هذا الشأن إليه، خلال 30 يوماً.
وبحسب حديث “أحمد” لبي بي سي، لا يتوفر سوى القليل من الطعام للمحتمين بالقاعدة. وقال إنهم لا يحصلون سوى على وجبتين فقط يومياً: الأولى عبارة عن كمية صغيرة من المعكرونة مع شاي بدون سكر، والثانية حصة صغيرة من الأرز مع شاي غير مُحلى، وهي وجبات غير كافية حتى للأطفال الصغار، بحسب تعبيره.
في ظل هذا الوضع، طالب “اللاجئون إلى القاعدة”، بالسماح لهم بإدخال الطعام على نفقتهم الخاصة، لكن السلطات الروسية رفضت ذلك، كما أنها تمنع – كما قالوا – دخول أي مساعدات غذائية. ويشير هؤلاء إلى أن حياتهم داخل حميميم باتت “أشبه بالعزل التام”، قائلين إنهم يُعاملون، وكأنهم جنود أو عناصر أمنية وليسوا مدنيين فارين من الصراع.
فارٌ آخر إلى القاعدة الجوية الروسية، اختار لنفسه اسم “حسن”، قال لبي بي سي إن القوات الروسية بدأت، في الآونة الأخيرة، بـ “إجبار” العائلات الموجودة في الساحة الخارجية للقاعدة، على التقدم يومياً لمسافة تتراوح ما بين 10 إلى 15 متراً، نحو البوابة الخارجية، حيث يوجد حاجز للأمن العام السوري، كما أصدرت تعليمات برفع جميع الخيام، التي نصبت في الساحة الخارجية لـ “أسباب أمنية”.
ويضيف “حسن”، أنه تم أيضاً إجلاء العائلات التي كانت تحتمي بمحطة الوقود داخل القاعدة، والتي كانت توفر مأوى للسيدات الحوامل تحديداً من حرارة الشمس، “بدعوى إعادة تشغيل المحطة”، رغم أنها لم تعد للعمل حتى الآن.
أما “وليد”، وهو صاحب اسم مستعار آخر، فيقول لبي بي سي: نحن هنا نعيش على نفقتنا الشخصية، ولا نطالبهم بشيء سوى توفير الحماية. لجأنا هرباً بدمائنا من فصيل إرهابي جزار قتل أولادنا.
ويقول “وليد” إن التضييق الروسي على الموجودين في القاعدة “يتفاقم يوماً بعد يوم، دون معرفة الأسباب الحقيقية وراء ذلك”. ويضيف أنه يلاحظ توجه جنود روس نحو الباب الرئيسي للتفاوض – كما قال – مع عناصر من الأمن السوري وبعض الملثمين، شاكياً من “المعاملة السيئة” التي يتلقاها واللاجئون الآخرون إلى القاعدة “من الجانب الروسي دون تفسير”.
ويعتبر “وليد” أنه يتم الضغط عليهم “بشكلٍ ممنهج.. للخروج من القاعدة، متجهين نحو مناطق تسيطر عليها الجماعات الإرهابية والعصابات المسلحة، فيما يبقى مطلبنا الأساسي هو حماية أرواحنا وأطفالنا”، مضيفاً أن هناك شائعات منتشرة “عن وجود اتفاقات مالية بين بعض عناصر الأمن السوري والجنود الروس”، مما يزيد من حدة التضييق على الموجودين في حميميم، ويدفع نحو إخراجهم منها.
وطلبت بي بي سي، عبر البريد الالكتروني، من وزارتَيْ الدفاع والخارجية الروسيتين، الرد على ما يتضمنه هذا التقرير من اتهامات للمسؤولين عن القاعدة الجوية في حميميم، ولكنها لم تتلقَّ أي ردّ من الجانبين، حتى موعد النشر.
ويقول “حسن” لبي بي سي إن الفارين إلى القاعدة، يرفضون مغادرتها إلا بضمانات لحمايتهم دولياً، إذ يخشون من التعرض لـ”مجازر خارجها”، ويشير إلى ما يصفه بـ “اختفاء نحو 20 شخصاً ممن غادروا القاعدة خلال الفترة الماضية بسبب عدم تحملهم الظروف المعيشية” بداخلها.
ويؤكد أن الضغوط المتزايدة على المقيمين في القاعدة تدفعهم “قسراً” إلى الخروج منها، ومن ثم مواجهة خطر الجماعات المسلحة في خارجها، مشيراً إلى أن “التعامل الروسي معهم لم يعد كلاجئين يبحثون عن الأمان، بل كأفراد مجندين داخل القاعدة”.
وفي هذا السياق، يطالب عدد ممن تحدثت معهم بي بي سي، الأمم المتحدة والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة لها، وجميع الجهات المعنية بـ “التدخل العاجل لإيجاد حل للأزمة قبل وقوع كارثة إنسانية”، مؤكدين أنهم على أرض سورية، وأنه لا يحق لأي جهة إجبارهم على مغادرتها، دون ضمانات تحميهم مما يعتبرونه خطراً محدقاً بهم.
ويقول “كرم”، وهو صاحب اسم مستعار أيضاً، لبي بي سي: نحن الآن نعيش تحت حماية الروس، ولا نستطيع النوم بطمأنينة في بيوتنا، إذ تتصاعد أعمال العنف ليلاً وتصبح الحياة غير مستقرة. ويضيف أن التجارب المأساوية التي مروا بها “جعلتنا نطالب بحقوقنا الأساسية، خاصةً الحماية الدولية”، قائلاً “نحن كسوريين لدينا حقوق، كأبناء دولة عضو في الأمم المتحدة منذ تأسيسها، ونطالب بضمان حماية لاجئي سوريا من هذا الإرهاب الذي لا يميز بين السوريين”.
قالت منظمة العفو الدولية في تقرير لها، إنه يتعين على الحكومة السورية أن تضمن محاسبة مرتكبي ما سمته “موجة عمليات القتل الجماعي التي استهدفت المدنيين العلويين في المناطق الساحلية”، وأن تتخذ خطوات فورية لضمان عدم استهداف أي شخص أو جماعة على أساس طائفته. ووفقاً للمنظمة، فإنها تلقت معلومات تفيد بأن مسلحين تابعين للحكومة قتلوا أكثر من 100 شخص في مدينة بانياس الساحلية يومَيْ 8 و9 مارس/آذار 2025. وتقول المنظمة إنها حققت في 32 عملية قتل، وخلصت إلى أنها كانت متعمَّدة وموجَّهة ضدّ الأقلية العلوية. ونقلت عن شهود عيان قولهم، إن رجالاً مسلحين كانوا يسألون الناس عما إذا كانوا علويين قبل تهديدهم أو قتلهم، وفي بعض الحالات، أنحوا عليهم باللائمة، على ما يبدو، في انتهاكات ارتكبتها السلطات السورية في فترة نظام الحكم السابق. وأكدت منظمة العفو الدولية ضرورة توفير كل السُبل التي تضمن كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
* العنوان والنص لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي