السبت, 8 نوفمبر 2025 09:47 PM

لغز رحيل لونا الشبل: من واجهة النظام إلى نهايتها الغامضة

لغز رحيل لونا الشبل: من واجهة النظام إلى نهايتها الغامضة

شبكة أخبار سوريا والعالم/ في عام 2017، شهدتُ قراراً لافتاً في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، المؤسسة التي كانت حلماً وظيفياً مشروطاً بخلفية أمنية قوية. بعد عبور البوابة وترك هويتي في مكتب الاستقبال، شعرتُ وكأنني في فرع أمني لا مبنى تلفزيون رسمي.

فجأة، انقلب كل شيء رأساً على عقب، صور الرئيس المخلوع تملأ المكان، والهمسات تتردد: "لقد أُعفي وزير الإعلام!" القرار كان بإعفاء عماد سارة من منصبه كمدير للهيئة، لكنه لم يرحل، بل أجرى اتصالاً هاتفياً واحداً كافياً ليصدر الوزير محمد رامز ترجمان بياناً يؤكد فيه إلغاء القرار رقم (678) القاضي بإنهاء تكليف عماد سارة. كان الاتصال بـ لونا الشبل.

لم تكن لونا الشبل مجرد وجه إعلامي، بل شخصية نافذة في الدائرة المحيطة ببشار الأسد. بدأت مسيرتها أمام الكاميرا، وانتهت في غموض يثير تساؤلات أكثر من الإجابات.

ولدت لونا الشبل في السويداء عام 1975، درست الفرنسية والإعلام، وبدأت عملها في التلفزيون السوري. سرعان ما برزت، وانتقلت إلى قناة الجزيرة في الدوحة، حيث أصبحت من أبرز مقدمي البرامج السياسية. لكن عودتها إلى دمشق عام 2010 كانت نقطة تحول، حيث التحقت بفريق القصر الرئاسي، وتدرجت بسرعة في دوائر صناعة القرار.

مع اندلاع الحرب السورية، وجدت السلطة في لونا الشبل ما تبحث عنه: وجهاً أنثوياً قادراً على الدفاع عن النظام بثقة وعصرية. تولت إدارة المكتب الإعلامي والسياسي في رئاسة الجمهورية، ثم أصبحت مستشارة خاصة للأسد في نهاية عام 2020. فهمت لونا اللعبة مبكراً، فالنفوذ في النظام السوري يُنتزع بالولاء والقدرة على البقاء في الدائرة الموثوقة. كانت تتقن خطاب السلطة، وتعرف كيف تلمع صورتها دون تجاوز الخطوط الحمراء، فوصلت إلى موقع لا يصل إليه إلا رجال الأمن. كانت تتحدث باسم النظام، ولهذا أصبحت شخصية حساسة، تجمع بين الكاميرا والقرار، بين الصورة والسياسة.

منذ عام 2011، أدارت لونا الشبل آلة الإعلام الرسمي التي واجهت العالم برواية واحدة: أن الدولة تحارب الإرهاب. كانت مسؤولة عن صياغة خطاب النظام، لغة التماسك والوطنية والاستقرار، في مواجهة خطاب الثورة والفوضى. أعادت هيكلة الرسائل الإعلامية داخلياً، وأشرفت على التواصل مع القنوات الأجنبية خارجياً، وأدارت صورة الأسد بعناية. هذا الدور أكسبها سمعة مزدوجة: رمزاً للولاء والكفاءة للموالين، ووجهاً أنيقاً لآلة القمع للمعارضين.

تعتبر لونا الشبل جزءاً من شبكة النفوذ داخل القصر الرئاسي، حيث تتقاطع السياسة بالأمن والتمثيل الإقليمي. ورغم أنها لم تعلن انتماءها لأي جناح، فإن صعودها السريع أزعج دوائر أقدم، خاصة المرتبطة بالأجهزة الأمنية والعلاقات الإيرانية. في السنوات الأخيرة قبل وفاتها، بدأ نفوذها يتراجع، واستُبعدت هي وزوجها من اللجنة المركزية لحزب البعث، وتناقص ظهورها الإعلامي. كان واضحاً أن موقعها داخل القصر لم يعد آمناً، وأن موازين القوة تميل ضدها. تداولت مصادر إعلامية روايات عن توترات داخل الدائرة الضيقة للرئاسة، وعن علاقة شخصية مع الأسد كانت سبباً في خلافات مكتومة. وتقول المصادر إن نفوذها كان يثير رهبة لدى العاملين في القصر، حيث كانت تتصرف بثقة مطلقة، وتصدر الأوامر لكبار المسؤولين، في حضور الأسد نفسه.

لكن الغرور أعمى لونا الشبل، فنسيت طبيعة النظام الذي خدمته: نظام لا يحتمل الرموز حين تنتهي أدوارهم، ويبتلع أبناءه حين يشعر بأنهم تجاوزوا حدود الدور المرسوم لهم. لم تُقتل لأنها خرجت عن الخط، بل لأنها أصبحت جزءاً منه إلى حد لم يعد يُحتمل. لم تنجُ لا بمهارتها ولا بولائها. بعد أسابيع من التضييق، تم توقيف زوجها عمار ساعاتي، بينما كان يستعد للسفر إلى روسيا، وأُوقفت إجراءات سفرها، وأُبلغت بمنعها من مغادرة البلاد. في الوقت ذاته، أودع شقيقها العميد ملهم الشبل السجن بتهمة “التخابر مع جهات معادية”. بدأت لونا تستشعر الخطر، وتلوح بامتلاكها وثائق حساسة يمكن أن تحدث صدمة داخل الدائرة الرئاسية. حسام لوقا تولى التحقيق معها، في خطوة فُسرت بأنها فقدان الثقة بها داخل القصر. وتقول الروايات إن الخلاف بينها وبين بشار الأسد بلغ مرحلة الصدام المباشر قبل أيام من مغادرتها القصر للمرة الأخيرة.

في يوليو/تموز 2024، كانت النهاية المفاجئة. حادث سير على طريق يعفور قرب دمشق، تحوّل إلى قصة غامضة. الرواية الرسمية اكتفت بالقول إن سيارة لونا الشبل انحرفت عن الطريق، لكن الصمت الذي تلا الحادث كان أثقل من الخبر نفسه. دُفنت المستشارة الرئاسية على عجل، من دون مراسم عامة، ولا بيان رسمي، ولا حتى نعي يليق بها. تسريبات تحدثت عن اصطدام متعمد، وعن تحقيقات أُغلقت بسرعة. البعض وصفه بأنه تصفية داخلية، فيما رآه آخرون رسالة صارمة: لا أحد أكبر من اللعبة. مصادر كشفت أن لونا الشبل تعرضت لضربة قوية من الخلف بأسفل بندقية، ما أدى إلى إصابتها بكسور قاتلة في الجمجمة ووفاتها على الفور. طبيب شرعي أكد أن الفحص الأولي أظهر ضربة عنيفة على مؤخرة العنق والرأس، قائلاً: “لم تكن وفاة ناتجة عن ارتطام عرضي، بل عن ضربة قُصد بها إسكات صوت لم يعد ضرورياً”.

هكذا خبا صوت خدم آلة النظام لسنوات، قبل أن يتحول إلى عبء في زمن المساومات الإقليمية الجديدة. كانت الشبل إحدى واجهات النفوذ الإعلامي داخل القصر الرئاسي، في شبكة تتقاطع فيها الأجهزة الأمنية، وخصوصاً إدارة التوجيه المعنوي والفرع الرابع، مع دوائر النفوذ الإيراني المتصاعدة. وبرغم غياب أدلة مباشرة على ارتباطها بطهران، فإن قربها من شخصيات محسوبة على الخط الإيراني جعلها محل ريبة لدى موسكو. بدا أن التوازن الذي حافظ عليه النظام بين رعاته الإقليميين لم يعد ممكناً، وأن تصفية لونا الشبل قد تكون إحدى إشارات هذا التحول الخفي في موازين القوة داخل سوريا ما بعد الحرب. وفي النهاية، يظل السؤال الأعمق معلقاً: هل يمكن لأي وجه مدني داخل سلطة عسكرية أن يستمر من دون أن يصبح ضحية التوازن ذاته؟ ربما كانت لونا الشبل قد أجابت عن هذا السؤال بدمها، لتغدو رمزاً صامتاً لصراع لم ينتهِ بعد، بين الصورة والسلطة، بين الولاء والنجاة.

تُعد لونا الشبل حالة استثنائية في بنية النظام السوري، حيث يهيمن الطابع الأمني والعسكري على مراكز القرار. فقد صعدت من موقع مدني بحت إلى قلب السلطة السياسية، ليس عبر المؤسسة العسكرية، بل من بوابة الإعلام، المجال الذي حوّلته من أداة ترويج إلى وسيلة نفوذ حقيقي داخل القصر الرئاسي. نجاحها في بلوغ هذا الموقع ارتبط بعدة عوامل: براعتها في الخطاب والسيطرة على الصورة، وقدرتها على التواصل الدولي، والثقة الشخصية من بشار الأسد، وتحالفها مع جناح الرئاسة المدني. في النهاية، كانت لونا الشبل نتاجاً لمرحلة أرادت فيها السلطة تحديث صورتها دون أن تغير جوهرها. غير أن النظام الذي سمح لها بالاقتراب من مركز الضوء، هو ذاته الذي أطفأ الضوء عنها حين أصبحت أكثر حضوراً مما يجب.

المدن

مشاركة المقال: