في تحول لافت يعكس تغيراً في وجهة تدفق رؤوس الأموال، تشهد بريطانيا هجرة متزايدة لأثريائها ورجال الأعمال نحو دولة الإمارات العربية المتحدة. يعتبر هذا التحول من أبرز التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها أوروبا الغربية في السنوات الأخيرة.
تبرز هذه الظاهرة بوضوح في قرار الملياردير النرويجي جون فريدريكسن، وهو من أبرز رجال الأعمال في قطاع الشحن، بمغادرة بريطانيا والاستقرار في الإمارات، معبراً عن رأيه في الوضع في المملكة المتحدة بعبارة قاسية: "بريطانيا ذاهبة إلى الجحيم".
قصر بـ336 مليون دولار للبيع.. ورحيل نهائي
عرض فريدريكسن، الذي صنف كثامن أغنى رجل في بريطانيا بثروة تقدر بـ 13.7 مليار جنيه إسترليني من قبل مجلة "صنداي تايمز"، قصره التاريخي الفاخر في منطقة تشيلسي للبيع مقابل 250 مليون جنيه إسترليني (أي ما يعادل 336 مليون دولار). يعود تاريخ القصر، المعروف باسم "أولد ريكتوري"، إلى أكثر من 300 عام، ويعتبر من أغلى العقارات في البلاد، حيث يضم عشر غرف نوم وحدائق واسعة تمتد على مساحة فدانين، ومساحة مبنية تتجاوز 30 ألف قدم مربعة.
كان فريدريكسن قد اشترى هذا العقار في عام 2001 بمبلغ 40 مليون جنيه إسترليني، لكنه قرر مغادرة بريطانيا نهائياً بعد أسابيع من انتقاده الصريح لوزيرة المالية رايتشل ريفز بسبب إلغاء نظام الإقامة الدائمة للأجانب غير المقيمين المعروف بـ "non-dom"، والذي كان يوفر للأثرياء إعفاءات ضريبية كبيرة.
"العالم الغربي في طريقه إلى الانهيار"
في تصريحات أثارت جدلاً واسعاً، قال فريدريكسن (81 عاماً): "العالم الغربي بأكمله في طريقه إلى الانهيار. بريطانيا أصبحت تشبه النرويج بشكل متزايد… لقد ذهبت بريطانيا إلى الجحيم". واعتبر أن حملة الحكومة الجديدة لمكافحة التهرب الضريبي، والتي استهدفت الأثرياء والمستثمرين، دفعته إلى اتخاذ قرار الهجرة إلى الإمارات.
الإمارات.. الوجهة البديلة الأكثر جاذبية
يبدو أن فريدريكسن ليس حالة فردية، بل جزء من موجة هجرة أوسع لرؤوس الأموال من بريطانيا. وأكد علي متولي، المستشار الاقتصادي في مؤسسة Ibis البريطانية للاستشارات، أن "المملكة المتحدة تشهد في الآونة الأخيرة موجة غير مسبوقة من هجرة الأثرياء ورجال الأعمال نحو دولة الإمارات العربية المتحدة"، متوقعاً أن "يغادر نحو 16,500 مليونير بريطانيا خلال عام 2025 فقط، وهو رقم قياسي يعبر عن تحولات عميقة في سلوك الأثرياء عالمياً".
يعزى هذا النزوح إلى أسباب ضريبية واقتصادية في المقام الأول، أبرزها إلغاء نظام "non-dom" الذي كان يتيح للأجانب المقيمين دفع الضرائب فقط على دخلهم المحلي دون المساس بدخلهم الخارجي، بالإضافة إلى رفع الضرائب إلى مستويات قد تصل إلى 67% من الدخل بعد احتساب الضرائب الإضافية، وتشديد ضريبة الميراث.
في المقابل، تبرز الإمارات كوجهة مفضلة لأصحاب الثروات، بفضل نظام ضريبي شبه معدوم على الدخل والميراث وأرباح الأسهم، إلى جانب سهولة الحصول على الإقامة الذهبية لمدة 10 سنوات مقابل استثمار عقاري يبدأ من 550 ألف دولار. وخلال عام 2024 فقط، نجحت الدولة في جذب نحو 4,500 مليونير، ومن المتوقع أن يزداد العدد خلال 2025.
بيئة مستقرة وخدمات عالمية
لا تقتصر جاذبية الإمارات على الضرائب المنخفضة فقط، بل تشمل أيضاً بيئة اقتصادية مستقرة، وبنية تحتية مالية عالمية، ومراكز اقتصادية مثل دبي وأبوظبي، وخدمات تعليمية وصحية عالية المستوى، مما يجعلها وجهة مثالية للأثرياء الباحثين عن الأمان المالي والمعيشي.
يتزامن هذا الواقع مع حالة من عدم اليقين السياسي في المملكة المتحدة، عقب فوز حزب العمال في الانتخابات بعد غياب أكثر من عقد عن الحكم. يُعرف عن الحزب توجهه غير المرحب بالخصخصة والمستثمرين، وتفضيله توسيع دور الدولة، إلى جانب تغييرات متكررة ومفاجئة في القوانين، مما يثير قلق المستثمرين ويدفعهم نحو بيئات أكثر استقراراً كالإمارات.
في المحصلة، قصة جون فريدريكسن ليست سوى تجلٍ واضح لأزمة أوسع تضرب اقتصاد المملكة المتحدة، بينما تفتح دولة الإمارات ذراعيها لجذب نخبة رؤوس الأموال العالمية عبر مزيج من السياسات الذكية، والامتيازات الاستثمارية، والاستقرار السياسي والاقتصادي. وإذا لم تراجع بريطانيا سياساتها بسرعة، فإن موجة هروب الأثرياء ستتحول من ظاهرة مؤقتة إلى واقع دائم يعيد رسم خريطة النفوذ المالي في العالم.